أقف على ملعب كرة القدم التابع لمركز الشهيد صﻻح خلف بالفارعة، او ما كان يسمى سابقاً"سجن الفارعة" لتسجيل حلقة تلفزيونية حول ذكرياتي مع هذا السجن " المسلخ " مع الصحفي محمد علوي، حيث يشكل هذا الموقع دليل واضح على إرادة الشعب الفلسطيني، وعدم بقاء الحال على ما هو عليه الآن، فقبل عشرين عاماً كان هذا المكان مسلخا لقتل إرادة المناضلين الفلسطينيين، وكان لي تجربة شخصية مع المحققين المجرمين، ومع مدير السجن المجرم " غدير " أسوة باﻻف المناضلين الذين ذاقوا الضرب والشبح والتعذيب واﻻهانة، وأذكر جيداً مساء ذات يوم حزيراني من عام 1983 عندما كنت في هذا المعتقل المسلخ للمرة الرابعة على التوالي حينما جاء لزيارة السجن وفد من الصليب الأحمر الدولي لﻻطﻻع على حجم اﻻنتهاكات اﻻسرائيلية بحق اﻻسرى الفلسطينيين، وكوني أحد طلبة جامعة النجاح الوطنية ووجهي مألوف لدى الوفد، فقد طلب مني مرافقته لزيارة أقسام السجن، وفعﻻ هذا ما حدث، ولم يكن يعرف هذا الوفد أنني باﻻمس فقط قد تعرضت لضرب مبرح على يد مدير السجن المجرم غدير بسبب قيام أحد اﻻخوة في الغرفة التي كنت أقيم فيها بالغناء، حيث سمع صوته من قبل حراس القسم، وتم إخراج كافة المتواجدين في الغرفة للتحقيق معهم حول المعتقل الذي كان يغني، ولما لم يعترف أحد عليه، جاء دوري، وكان يعرفني غدير أنني طالب جامعي، فكان نصيبي من الضرب والتعذيب مضاعفا بسبب عدم اعترافي على اﻻسير الذي كان يغني، فاستخدموا بالضرب بربيشا مجدوﻻ باﻻسﻻك ولم يوفروا أي جزء من جسمي اﻻ وتعرض للضرب، وعدنا بعد هذه الوجبة الدسمة من الضرب إلى الغرفة دون أن نعترف على من كان يتحفنا بصوته الجميل باغاني وطنية تسلحنا بالصبر والقوة.
أعود لوفد الصليب الأحمر الذي رافقته بجولة في أقسام السحن، وكان يسأل اﻻسرى عن أوضاعهم وهل يتعرضون للضرب والتعذيب، وكانوا يخفون عنه ذلك خوفاً على حياتهم، أما انا، وأعوذ بالله من كلمة أنا، فقد قلت لهم أن هناك اسرى تعرضوا للضرب ولكنهم يريدون ضمانات منكم بعدم تعرضهم للضرب بعد مغادرتكم السجن، فقالوا لي: خذ ما تشاء من الضمانات، ونحن سنطلب من مدير السجن الالتزام بذلك، فقلت لهم: انا تعرضت للتعذيب ليلة أمس، قالوا لي: هل تسمح لنا برؤية آثار التعذيب على جسمك، قلت لهم: نعم. وفعﻻ قمت بخلع جزء من مﻻبسي، وفوجئ الجميع كما فوجئت انا بتلك اﻻثار واﻻلوان التي انتشرت في جسمي نتيجة استخدام السياط بالضرب، وأمام هول الصدمة قالوا لي:هل لديك اﻻستعداد للشهادة أمام مسؤولي السجن؟ فقلت لهم: أريد ضمانات. فقالوا سنبلغك بذلك بعد رؤية مدير السجن. وعدت إلى غرفتي بإنتظار استدعائي بعد أخذ الضمانات، وفعﻻ بعد أقل من ساعة جاء أحد حراس السجن وطلب مني أن ارافقه إلى اﻻدارة، وما أن وصلت حتى رأيهم يجلسون على مائدة طعام عليها مما لذ وطاب من أنواع الطعام على شرف وفد الصليب الأحمر الدولي،
ورفضت طبعاً الجلوس معهم وبقيت واقفاً أنتظر سؤال مدير السجن لي عما حدث معي ليلة أمس، وشرحت له القصة كاملة، وعندما هممت بخلع مﻻبسي لإثبت له صدق اقوالي فرفض وقال لي: ساحاسبهم، وعدت إلى الغرفة وكلي يقين بأنني ساتعرض لوجبة جديدة من التنكيل والضرب على أيدي المجرم غدير. ونتيجة إحساسي بذلك قمت في فترة " الفورة " أو اﻻستراحة بتغيير مكان نومي من الغرفة التي يتواجد فيها 8 اسرى فقط إلى ما كان يسمى اﻻسطبل، وهو مكان للخيول، ويتسع لعشرات اﻻسرى ظناً مني انهم لن يستطيعوا الوصول إلي ومعرفة مكان نومي. وما توقعته حدث مئة بالمئة، وما أن جاء الليل وأغلقت أبواب السجن باﻻقفال الحديدية، وخلد اﻻسرى للنوم، حتى جاء حراس السجن واعادوا فتح اﻻبواب وبدأ المجرم غدير باستعراض اﻻسرى الواقفين واحداً واحداً وعندما رآني طلب مني مرافقته وكانت عيناه تلمعان من الغضب والبربيش المجدول باسﻻك الكهرباء بيده، ومعه مجموعة من حراس السجن المخمورين، واقتادوني إلى إحدى زنازين السجن، وبدأوا بتلقيني درساً لن أنساه أبداً، حيث القوني أرضا، وبدأوا وجبة الضرب على مختلف أنحاء جسمي، كان عددهم ثمانية جنود تناوبوا على ضربي، وكان صراخي يلقى صداه في جبال الفارعة المحيطة بالسجن، وبدأ اﻻسرى في"اﻻسطبل" بالطرق على باب السجن لعلهم يستطيعون عبثاً وقف الضرب ضدي، وبعد أن اعيا الجنود والمجرم غدير التعب القوني جثة هامدة في أرض الزنزانة التي رشوها بالماء كي ﻻ اخلد إلى الراحة، وأنا لي ذلك وأنا المتخم بالجراح واﻻوجاع، فلم اشفى بعد من وجبة اﻻمس، وﻻ أعرف كيف انقضت تلك الليلة وصوتهم يتردد في اذتي، خلي الصليب الأحمر ينفعك. وما أن جاء الصباح حتى تم استدعائي وابﻻغي باﻻفراج عني، ولحسن حظي أنني قلت لوفد الصليب الأحمر بأن يقوم بزيارتي لﻻطمئنان علي، وفعﻻ ما أن دخل الوفد السجن حتى افرجوا عني دون أن يتمكن من رؤيتي، وعدت إلى بيتي فرحا ولكنني كلي اوجاعا ولون جسمي كالوان قوس قزح جميلة ولكنها مخيفة، وعندما علم الصليب بالحيلة التي قامت بها إدارة السجن المجرمة باﻻفراج عني لحق بي وزارني بالبيت، وقمت بتسليمه شكوى مشفوعة بالقسم، اعتقد انها ما زالت في ادراجه اكل عليها الغبار وشرب.
هذه قصتي مع سجن الفارعة الذي زال عن الوجود هو والمحققين المجرمين ليبقى شاهداً على جرائمهم، وليصبح بإرادة شعبنا الفلسطيني مركزاً يحمل إسم القائد الوطني الفلسطيني الشهيد صﻻح خلف" ابو اياد " رحمه الله لتدريب الشبيبة الفلسطينية وتخريج الكوادر الرياضية. انه نموذج صارخ أن اﻻحتﻻل وأدواته إلى زوال طال الزمان أو قصر، ونحن هنا ملح اﻻرض باقون كأشجار الزيتون. فليعتبر المعتبرون. شكراً لمن فتح هذا الجرح النازف من الذكريات المؤلمة والجميلة وما بها من عنفوان وإرادة ﻻ يمكن لأحد أن يهزها مهما بلغ من الجبروت والبطش. تيسير نصرالله