يأخذني الحنين إليك، ويشدّني الشوق للحديث معك، والإنزواء بك، والإستحواذ عليك، والبوح لك بما لا أستطع البوح به لأحد، وتتعبني لحظات البعد عنك، وعدم المقدرة على سرقة الوقت، كي أتمكن من إنتشال الماضي البعيد فيك، فأنت لست مجرد ذكرى يأكلها النسيان، أو صورة معلّقة على جدار الزمن، أو حكاية تحكى للتائهين كي يسترشدوا بظلك، أنت لست مجرد صديق مرّ في زمن الوفاء، أو رفيق درب سار على نهج الكبرياء، أنت عالم بأكمله، يعجبني فيك صمتك عندما تلتزم الصمت، وشرود ذهنك حين تفكر في كل شيئ، وهدوءك الذي يغيظ الفوضى من حولك، أحب الفوضى فيك، وعشقك للقراءة، وحب الكتابة، وسعيك الدؤوب كي يقرأ الأحبة ما كتبت، أحب فيك عالمك الخاص حين يسرقك منا، وتهرب إليه، وتختبئ في ثناياه، وعندما تفارقه تأتي إلينا بإشارة يدك اليسرى، تهزها ليسمعك الجميع، فأنت تحب أن يصغي إليك الناس، بل أنّ بلاغتك في الحديث تفرض عليهم تعلّم حاسة الإصغاء والإستماع الجيد، تتكلم بلا إنقطاع، وبلغة فصيحة، وبإسلوب يشد السامعين، وبتسلسل منطقي يعبّر عن ثقافة ووعي.
أهرب إليك حيناً، وتسعفني يداي كي أسرق لحظةً منك، وأعجب من هذا التوحد فيك، وهذا الهروب منك إليك، تتملكني رغبة كي أطير، وأحلّق في السحاب بعيداً، كي اسمع وقع خطاك، وأنت تزهو بزيّك العسكري، وبروحك الجميلة وهي تداعب أطفال المخيم، وأمهاتنا اللواتي إفتقدن طلتك البهيّة، والزقاق المؤقتة تحكي رواية العشق بين المناضل والبندقية، وتحمي سرّ البطولة والتخفّي، هي ملجؤنا وقت إشتداد المحن، وهي ملاذنا لملاقاة ظلّ الفدائيين وهم يتوسمون بزيّ الشهادة.
أفتقدك، ومعي حنين الذكريات، وأسرار البطولة، وكيف جعلنا من خيمة المخيم مكاناً يأوي المشردين، وشعلةً تضيئ ليل التائهين، وقنديلاً يشعل فينا ثورة الثائرين، ما تعبت أقدامنا من طول المسير، ولا وهنت أجسادنا من رطوبة زنزانة الموتى، ولم نسعى لمغنم، فنحن وقود المراحل كلها، ولكننا نسعى لبناء عش نختبئ فيه عندما يفر الحمام، لنصنع فيه ثورة جديدة تطيح بكل عابري السبيل، الذين جاءوا بغفلة من الزمن ليطيحوا بأحلامنا، بعد أن ظنّوا انك مجرد صورة معلّقة على جدار الزمن.