مفارقةٌ واضحةٌ هي بالطبع، حين استخدم الإنترنت لنشر مقال معنون بعنوان كهذا، لكني قصدت إظهار هذه المفارقة بهذا الوضوح، لدحض أي شك في سلامة قوايَ العقلية، فليس عاقلا بالطبع من سيدعو الناس في عام 2015 للتوقف عن استخدام الإنترنت. أنا فقط أريد الحديث عن إدمان الإنترنت.
هل بدا أني اخرق قواعد الكتابة واكشف مبكراً عن مرادي؟ إنني ادفع هذه التهمة أيضاً عني، فغايتي ليست تلك المذكورة أعلاه، ولكني في الحقيقة أود سرد تجربة شخصية.
بدأَت علاقتي بالإنترنت في عام 2000 تقريباً. مراهقاً كنت. ابحث عن اهتماماتي من خلال هذه النافذة الجديدة، اتصفح مواقع كرة القدم والموسيقى، ثم مواقع الأخبار والسياسة، حين بدأت الانشغال بهما، إضافة إلى المواقع المعتاد تصفحها بواسطة المراهقين بالطبع
يبدو ختام الجملة السابقة بـ ” إيموشن الغمزة” مدخلاً مناسباً للحديث عن تطور علاقتي بالإنترنت وتعرُّفي على عالم المدونات، فعالم المنتديات، ومن ثم مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يكثر استخدام ” الإيموشنز” التي أصبحت وسيلة فعالة للتعبير يحلم الكثيرون بدخولها حيز الكتابة الرسمية.
عرفت موقع “فيسبوك” في مطلع العام 2007 ووجدت فيه أصدقاءً قدامى، وتعرّفت من خلاله على أصدقاء جدد، وتعرّفت كذلك على اهتمامات هؤلاء الأصدقاء عبر ما ينشرونه.
تطورت اهتماماتي كذلك، ووجدت في “الفيسبوك” من المعلومات والأخبار والصور والأحداث “events” ما يشبع جميع تلك الاهتمامات، ثم عرفت “تويتر” و”يوتيوب” و”ساوندكلاود” وعايشت هذه المواقع من بداياتها إلى تطورها للقدْر الذي قضى على ما سبقها من اختراعات كالـ”ماسنجر” والمدونات والمنتديات و”هاي فايف” و”ماي سبيس”.. إلخ.
في 2011 الجميلة، تحقق حلم قيام الثورة، وتسارعت وتيرة الأخبار والتغيرات حتى أصبح من المستحيل ملاحقتها عبر الصحف وقنوات التليفزيون، ولا حتى عبر المواقع الإخبارية، وحدها مواقع التواصل الاجتماعي هي التي كانت قادرة على مواكبة هذه السرعة المفرطة.
أدمنت مواقع التواصل الاجتماعي وأدمنها كُثر من شركاء الحلم كذلك.. كنا في الشوارع والميادين نصنع الأخبار ونبثها عبر حساباتنا الشخصية في التو، لتنقلها عنا كافة وسائل الإعلام حول العالم أجمع.. كثيرون منا كانوا في الصفوف الأمامية لجبهات القتال يقاومون بقذف الحجارة، يقذفونها بيد، ويغردون على “تويتر” عبر أجهزة المحمول باليد الأخرى.. تصرفات مدمنين بلا شك!
تعرفون جميعاً مآل ثورتنا المغدورة، ولن أستطرد في هذا الأمر الكئيب بالطبع. الآن هدأت الأوضاع نسبياً، وشيئاً فشيئاً تعود الأخبار والتطورات لإيقاعها البطيء، لكننا احتفظنا بعادة إدمان “فيسبوك” و”تويتر”، خصوصا بعد انتشار أجهزة المحمول و”التابلت” المتطورة.
تَمكَّن الإدمان منَّا لدرجة انتشار “نكتة” عبر هذه المواقع مفادها اعتذار شخص عن لقاء أصدقائه لأنه سيذهب برفقة آخرين للمقهى حيث سينظر كل منهم في هاتفه.
ربما هو ذلك الأمل الضئيل في مطالعة خبر جيد، أو ربما هي الرغبة في عزاء الأنفس بمطالعة تجارب شركاء الحلم وكلماتهم ووصفهم لمحاولات مقاومة الهزيمة أو محاولات الهروب من الاكتئاب والإحباط أو محاولات التأقلم.. لا أعرف حقاً. لكل مدمن لأي شيء أسبابه التي تجعله وفياً لإدمانه.
في بيتي لا يوجد إنترنت، وعملي الشاق لا يمكنني من مطالعة مواقع التواصل الاجتماعي كثيراً في مكان العمل، لذا أستخدم هاتفي المحمول لأُشبع إدماني.
بالأمس نفذت باقة الإنترنت، ولم أشأ أن أجددها لأعطي نفْسي فرصة للتوقف عن الإدمان، خصوصا أني اعترفت لنفسي بهذا الإدمان منذ فترة، وأفكر من حينها في إيقاف حساباتي على هذه المواقع لأتعافى من هذا الإدمان، خصوصا أن ميعاد التجديد التلقائي لباقة الإنترنت سيحل بعد يومين.
اكتب هذ المقال بعد مرور اليوم الأول دون وجود إنترنت على هاتفي المحمول. اكتفيت في هذا اليوم بتصفح سريع للإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي عبر حاسوب العمل.. انتابتني نوبات الاحتياج لمطالعة مواقع التواصل الاجتماعي في المواصلات، وأثناء الانتظار في طوابير الموظفين، وأمضيت هذه الأوقات في إجراء مكالمات هاتفية مع أصدقاء لم أسال عنهم منذ زمن طويل، وبادرت بالاتصال بوالديَّ بدلاً من انتظار مكالمتهما اليومية.. أخبراني أنهما فرحا كثيراً بمبادرتي بالاتصال.
بعد أن فرغت من العمل، جلست في المقهى مع أصدقائي جلسة طويلة امتلأت بالحديث المتواصل في شتى الموضوعات بعد أن تضامنوا معي ولم يستخدموا هواتفهم في مطالعة الإنترنت أثناء جلستنا.
عدت إلى البيت، وبدلاً من قضاء الوقت حتى ميعاد النوم في مطالعة الإنترنت، وجدت وقتاً لوضع ملابسي المتسخة في الغسالة ونشرها – نعم يعطلني الإدمان عن مثل هذه الأمور البسيطة- ووجدت متسعاً من الوقت كذلك للتخلص من الفوضى العارمة في البيت حيث غسلت المواعين ورصصتها نظيفة في المطبقية، وجمعت الملابس المتناثرة ووضعتها مرتبة في الخزانة، ورتبت ملفات العمل والأوراق المكومة فوق المكتب وعلى المنضدة، رتبت الكتب كذلك ونظَّمت المكتبة.
صار البيت أجمل بكثير. وجدت وقتاً حتى لتنظيم حقيبتي، وفكرت في كتابة هذا المقال ووجدت وقتاً لتنفيذ ذلك. رائع! لم أجد وقتاً لكتابة أي شيء لغير أغراض العمل منذ زمن طويل.
أنا أيضاً سأخلد للنوم وأنا أهدأ نفسياً وأروق بالاً بكثير بالمقارنة بأيام الإدمان، وأفكر الآن في أنني ربما أجد وقتاً أكثر للقراءة أو مشاهدة الأفلام في اليوم المتبقي قبل تجديد الباقة.
لن اختم مقالي بوعظة سخيفة عن التخلص من إدمان الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فربما أعود لإدماني حين تتجدد الباقة، ولكني أُشهِد نفسْي عليَّ، سأبدأ في ترشيد التعاطي حين يعود الإنترنت للهاتف المحمول.