جاد الطويل***

ناهزعمري الخمسين سنة، وأعيش حياتي على  ضفاف قارتين في شرق و غرب هذا العالم مترامي الاطراف، وقضيت  أكثرمن ثلاثة عقود في العمل التطوعي المجتمعي، وها انا لا زلت اخوض تجارب مجتمعيةومعارك مختلفة واتابع احيتاجات المرضى  الطبية والاجتماعية، وللاسف تتدحرج امام ناظري  تراكمات  من ألم المواطنين، اقيس  تميزها بمرارة المعاناة  وبصبر الكثيرين.  منذ ذلك الزمن البعيد تبنيت قضية انسانية من عمق ماساة النظام الصحي الفلسطيني، ودافعي وما يحركني للعمل كان ولا يزال الإيمان بهذه القضية الانسانية، و من  خلال ادراك شخصي وتشجيع عائلي بأهميتها،  وهدفي من العمل لها هو عمل مجتمعي  لاربحي، ووازع انساني بحت لخدمة مرضى نزف الدم الوراثي والهيموفيليا في فلسطين أساسا وتسليط الضوء على احتياجات مرضى فلسطين بشكل عام، والسبب لهذا الاهتمام هو معايشتي على مدار الساعة لمعاناة هذه الشريحة من البشر صحيا واجتماعيا ومعرفتي بتفاصيل حياتهم.

قد يقول قائل هناك الالاف  القضايا المهمة في المجتمع الفلسطيني ومئات الاولويات للافراد والمؤسسات المجتمعية والرسمية. وان اتفق مع القائل ان كان مواطن عادي او موظف اداري في مستشفى او في مؤسسة عامة فيما يقول، لعدم ادراكه الشمولي للوضع الصحي وتميز حالة واحتياجات  مرضى نزف الدم الوراثي كاصحاب امراض  مزمنة وذوي احتياجات خاصة فحياتهم مهددة بالخطر على مدار الدقائق وليس الساعة. وفي المقابل لا اتفق مع وزيري الصحة او الشؤون الاجتماعية من خلال مساعديهم ان تبنيا نفس الموقف السلبي او قصرا في توفير الخدمة  للمرضى ،ونفس الشيء ارفضه بشدة ان اصر معاوني رئيس الوزراء ورئيس الدولة على الاخذ بنفس المقولة ونفس التبرير وتخاذلا عبر مستشاريهم بقصد او بدون قصد في مساعدة المرضى وعائلاتهم.

لا يدرك  الم ومعاناة مريض نزف الدم وعائلته الا المريض ومن يحيط به من المجتمع الصغيروالكبير، حيث تبدأ المعاناة  منذ ولادة المريض وبالمنزل وتمر بالمدرسة ولا تنتهي بالعمل بل تستمر في المجتمع الاوسع على مدار الساعة قي حياة المريض. فهذا الانسان المعذب يعيش في معاناة صحية ونفسية واجتماعية نتيجة مرض وراثي وتتراكم لديه المعاناة والمشاكل الصحية والجسدية والحركية بالساعة من يوم ولادته حتى وفاته.

امراض نزف الدم الوراثي، والتي تشمل مرض الهيموفيليا، ناتجة عن خلل جيني  يسبب تعطل وارباك الية تخثر الدم لدى المريض مما يسب نزف متواصل في المفاصل والعضلات والاعضاء الداخلية ولفترة اطول من الانسان العادي ويحدث  النزف لأبسط الكدمات والجروح وغالبا يحدث النزف تلقائي في 70% من الحالات المصنفة  بشديدة الاصابة، وهذا النزف قد يحدث عدة مرات اسبوعيا، ويحدث ارباكا في حياة المريض واسرته، ويسبب  الالم  الشديد غير المحتمل لانحسار الدم في المفاصل والعضلات  وداخل الجسم– من تجربة شخصية لاربعة واربعين عاما اتحدث - وليس من الضرورة ان يرى الدم النازف خارج الجسم. ولا زالت المعاناة مستمرة- والاعاقات  الحركية والتشوهات تحدث في المفاصل والعضلات والاعضاء الداخلية والتي تحدث تلقائيا وقد تسبب الموت المفاجيء للمريض لا سمح الله.

 اكثر امراض نزف الدم  شيوعا وما يعرفه المجتمع  هي الهيموفيليا الف، نقص العامل المخثر الثامن، او الهيموفيليا باء نقص العامل المخثر التاسع، والتي تصيب الذكور.  ولكن هناك امراض دم نزف وراثية اخرى يعاني اصحابها نفس الاعراض والمضاعفات كمرضى الهيموفيليا ولديهم نفس الاحتياجات  ولكن تنتج عن نقص واعتلال في وظائف العوامل المخثرة  الاخرى مثل  العامل الاول  او بروتين سي  او العامل المخثر السابع اوالعاشر اوالفان ويلبراند  اوالصفائح الدموية او العوامل الاخرى وهذه الاختلالات قد تصيب الذكور والاناث على السواء.

إن لمريض نزف الدم الوراثي وضع مميز  تبدأ هذه الخصوصية منذ يوم ولادته  ان ادرك الاهل والاطباء السبب في النزف الطويل وخاصة ان كان هناك في العائلة مرضى نزف دم نستطيع ادراك المشكلة او تجنبها حتى و كل ما نحتاجه اتباع بروتوكولات علاجية عالمية تبدا بالتشخيص الدقيق لنوع العامل  المخثر الذي يسبب المرض وشدة المرض ويستمر العلاج بتوفير العوامل المخثرة حسب الاوزان وشدة الاصابة طوال حياته، بل في البلاد المتقدمة  يتبعون العلاج الوقائي والمنزلي للمحافظة على حياة المريض  والحد من الاعاقات وتقليص عبء المصاريف اللاحقة والدورية على المؤسسة الرسمية من خلال اخذ العلاج وقائيا   بحيث تتحمل  الدولة أخلاقيا وحسب القوانين الانسانية المحلية والعالمية  تكاليف علاج مريض نزف الدم.

منذ عقدين من الزمن تحاول عائلات مرضى نزف الدم الوراثي والمرضى انفسهم و كثير من المتطوعين والمهتمين بالشان في الضفة الغربية وقطاع غزة العمل على ماسسة العمل  من أجل خدمة هذه الشريحة من المرضى وتوفير الاساسيات في العلاج لهم، ولكن للاسف بصفتي كمراقب من الداخل اعلن بل اعترف بتعثر و فشل هذه الجهود وان حاول الكثيرين  في المؤسسة الرسمية العمل على توفير شيء من الخدمة او تزين  الاداء من البعض الاخر او  ذر الرماد في العيون من بعض السياسين باظهارحالات قد توفر لها العلاج، فالحلول فردية  وليست جماعية او استرتيجية . فما يتم هوالاستجابة لمناشدة من بين عشرات المناشدات  فعلى سبيل المثال لا الحصر موسى وعيسى حصلا على العامل المخثر الثامن قبل عدة أشهر  بعد ان هددا بحرق نفسيهما  بعد طول معاناة  ولمرة واحدة وليس بالكمية المطلوبة، الا أن الطفلة صبا ابنة الخمسة اعوام تبقى بدون عامل مخثر عاشر رغم ان اهلها وصلو لمكتب المسؤول وحصلو على موافقة من شهرين لشراء العامل المخثر العاشر وتوفيره في مستودعات وزارة الصحة. .... ويستمراهل صبا  منذ ولادتها باخذها مرتين اسبوعيا على الاقل للمستشفى لاخذ  مشتقات الدم بدل العلاج النقي والمركز وتبقى الطفلة البريئة بانتظار توفير العامل المخثر العاشر لها.

 أما حال عيد ابن الخمسين عاما  والذي لا زال  ينتطر تنفيذ قرار اللجنة الدوائية بعد اكثر من سنيتين بشراء العامل المخثر السابع وتوفيرة في مستودعات وزارة الصحة  له بعد نزيف حاد في الدماغ، فالنزيف ادى الى شلل في الاطراف واقعده طريح الفراش ،بعد ان كان عيد مديرا لمدرسة ...الان اصبح معاقا  وخسر وظيفته. وليس الحال بافضل لعبد الرحمن ابن السنتين  فقد بترت ساقه وهو ابن ستة اشهر نتيجة خلل او خطأ في ثلاث مستشفيات تنقل بينها الرضيع ولا يتوفر علاج نقص العامل المخثر الخامس له في وزارة الصحة بل حتى موظف رسمي من هيئة انسانية ويمثل مسؤول كبير، وعد عائلة  الطفل بتوفير  ساق صناعي للطفل  منذ اشهر وحتى قبل ايام  اتصلت العائلة تشكي همها لانه لم يتوفر العلاج ولا الساق الاصطناعية لابنها.

قد يظن البعض ان هذه مجاولة للتسول او استجداء الراي العام المحلي او الاقليمي العربي والاسلامي او العالمي الانساني ... لا والف لا ..  المرضى وعائلاتهم ومؤسسات المجتمع المدني تبحث عن حلول استراتيجية للمرضى وعائلاتهم  ولا نبحث عن وعود أو فتات الاغنياء والمسؤولين او الدول المانحة من الدواء والرعاية الصحية الاجتماعية  ولا نريد تشدق المسؤولين اللجظي وامام وسائل الاعلام بتوفر بعض الرعاية المحدودة  للمرضى والتي لا تتناسب مع حجم المعاناة ... نحن نريد حلول استراتيجة ترقى بالعلاج الطبي والصحي والرعاية النفس اجتماعية لمرضى  نزف الدم الوراثي ومن ضمنهم مرضى الهيموفيليا بما يتلائم مع انسانيتنا وقيمنا الاخلاقية وضمن شبكة حماية اجتماعية وصحية للمواطن الفلسطيني بكافة شرائحه.

***  ناشط مجتمعي وباحث  فلسطيني  مقيم حاليا في مدينة البيرة في الضفة الغربية- فلسطين.