بقلم: أيمن هشام عزريل
في الواقع، لقد طرحت في الأدبيات العربية العديد من التعريفات الخاصة بالثقافة، وكل يتناولها من الزاوية التي يستطيع من خلالها حل اشكالية البحث الذي يعرضه، مع تأكيد مفهوم الثقافة ومقارنتها بالحضارات (أو الثقافات) الأخرى، فالثقافة إذاً هي الكل المعقد المتشابك في الأنظمة التي تتضمن أساليب الحياة المادية والروحية، فهي تتولد من عملية إنتاج الوجود الجماعي بوصفه وجوداً اجتماعياً.
وينبوعنا العربي- الإسلامي ينبوع صاف معطاء بفكره ومعتقده وأخلاقه ومنظوماته القيمية التي شددت على قيم التسامح والاعتراف بالاختلاف واحترام آراء ومعتقدات الآخر، وأن ذلك كله يشكل نبراساً وأسساً راسخة تستند إليها المؤسسات التعليمية الحكومية والأهلية في إرساء ثقافة للحوار ولغة التسامح والتعايش المشترك، وهذه المهمة تبدو حتمية اليوم وضرورية جداً.
فالمهمة إذاً هي ليس فقط حشو فكر الفرد بمفردات، ومقررات مجردة وبشكل سطحي، وإنما الاهتمام بدراسة السلوك الإنساني في ماضيه وحاضره، وخلق أنماط متميزة من الوعي والسلوك ومنظومات القيم وقواعد اجتماعية وعقلية تساهم في تعزيز الحوار مع الآخر، المختلف في ثقافته وأنساقه الحضارية: من معتقدات، وعادات، وحتى في طرائق التفكير والسلوك.
وهناك من يرى في الثقافة بأنها نظرة عامة إلى الوجود والحياة والإنسان، وقد تتجسد في عقيدة أو تعبير فني أو مذهب فكري أو مبادئ تشريعية أو مسلك أخلاقي عملي، وهي البناء العلوي للمجتمع الذي يتألف من الدين والفلسفة والفن والتشريع والقيم باختلاف التجارب والخبرات والمواقف لدى أي شعب من الشعوب والأمم الأخرى، وعليه، فإن هذه العناصر التي يضمها مفهوم الثقافة نجدها تشكل الجوهر الأساسي للثقافة العربية، على الرغم من التعدد في النظم السياسية واختلافاتها في نوعية الحكم، وكيفية ممارسة السلطة وانتقالها، إلا أنها لا يمكن أن تحول دون تركز هذه العناصر في الثقافة الواحدة: بلغتها العربية ومعتقداتها الإسلامية وقيمها السلوكية والمعرفية وتصوراتها الخاصة فيما يتعلق بالوجود الإنساني والتطور الحضاري.
ومن هنا، فإن الثقافة، بمدلولها الأوسع، موجه للحياة اليومية، من خلال صياغة حركة الوعي لدى الناس وتشكيل ذاكرتهم الثقافية المستمرة التي تختزن كل أفعال الثقافة وتجلياتها من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، فإنتاج الثقافة عملية مستمرة تخترق جميع الحقب التاريخية، وهي ليست موضع جدل على الإطلاق لأنها نتاج عمل دائم، وهي تختزن الذاكرة الجماعية الموروثة من الماضي الفاعل والمساهم في توجيه الأفراد والجماعات في الحاضر، أي ذاكرة السلف تغتني على الدوام بنتاج ثقافي جديد يساعد على عيش الحاضر وصناعة المستقبل.
لقد أضحى الحوار، وهو النقيض للصراع والخصام والنزاع، وخصوصاً بعد ما شهده العالم في عقد التسعينات من تحولات جذرية في النظم الشمولية، والحروب الأهلية والطائفية بين المذاهب والأديان في يوغسلافيا السابقة والشيشان وغيرها، وما بشر له في الغرب من نظريات صراع الحضارات، ضرورة حياتية لبلوغ الأهداف المشتركة في بناء عالم يسوده الأمن والاستقرار، ومتبنياً للتنمية المستدامة، وهناك من يرى في الحوار أيضاً، بأنه القدرة على التفاعل المعرفي والعاطفي والسلوكي مع الآخرين، وهو ما يميز الإنسان عن غيره، والذي يتم من خلال عمليتين هما: الإرسال (التحدث) والاستقبال أو الاستماع فالإسلام يرى بأن الطبيعة الإنسانية ميالة بطبعها وفطرتها إلى الحوار أو الجدل كما يطلق عليه، وأنها صفة متلازمة معه تلازم العقل به.
فثقافة الحوار تكشف إلى أي مدى كانت طروحات (الصراعات الحضارية) (المركزية الأوروبية)، بعيدة عن الواقع، وطرحت لأغراض سياسية وإلى أي مدى تكشف عن المضامين المشتركة بين الثقافات أو الحضارات القائمة، والأديان المتنوعة، وما حدث بينها من صدام وصراع في القرون الماضية، فإن ذلك مرجعه لطبيعة المصالح السياسية والاقتصادية، والتي حاولت توظيف (المشروعية الدينية) على ما تقوم به.
وإذا كانت ثقافة الحوار تحدد الأرضية المشتركة والمكونة للحضارة الإنسانية، فإن هذه الأرضية لا يمكن تشييدها إلا من خلال الاعتراف المتبادل بالتقاليد المميزة للثقافات الإنسانية المتعددة، ومن ثم التفاعل بين الهويات الثقافية المتعددة والتي تسمح بالتعايش بين مختلف التقاليد الحضارية، وإزالة حالات سوء الإدراك والصورة النمطية التي ترسمها هذه الثقافة تجاه الآخر.
إن الحوار بين الحضارات هو تعبير عن أبرز قيم الحضارة وسمات الشخصية الإسلامية المتوازنة وهو ضرورة حتمية وواجب أخلاقي وإنساني وشرط مؤكد للتعاون الإيجابي والمثمر للتعايش السلمي والإيمان بالقيم المشتركة الثابتة بين البشر فضلاً عن التكافؤ بين الإرادات والنوايا الحسنة، والاحترام المتبادل والالتزام بالأهداف التي تعزز القيم والمبادئ الإنسانية التي هي القاسم المشترك بين جميع الحضارات والثقافات.