أصداء-حياة أنور دوابشة- ربما نكون شعباً محباً للحياة، ونحن فعلاً كذلك، لكننا في الآونة الأخيرة أصبحنا نحبها بشروطنا الخاصة، يُقتل فينا كل يوم شاب يافع فنشيعه شهيداً إلى جنات الخلد، ونعود لنقص على أنفسنا - في بيت العزاء - كل ما يربطنا به، ونستغرب عندما تكون جل هذه الذكريات طيبة، فنعلم أن الله حين يصطفي من عباده أحداً لابد وأن ذلك كان لسبب وحكمة وقدر أكبر من أن نفهمها جميعاً، لكننا ومع الأسف صرنا نحب تكرار المآسي في جلساتنا، نقصها في خطاباتنا، نلقيها في إعلامنا، ونسمعها في عقولنا، هي هناك تُعاد كشريط ذكريات يمر أمام أعيننا، كل يومٍ صباحاً، قبل أن تبدأ حتى مأساةٌ جديدةٌ.
لقد عاشت قرية دوما ظروفاً مشابهة لهذه الحياة، وتعلمت الكثير، لقد كانت القصص التي تناقلت عن استشهاد عائلة دوابشة أكبر من أن تُروى وأعظم من أن تُقال، أصبحت تتردد على ذاكرتنا فنستيقظ عليها صباحاً، مصدومين لتفاصيل ربما تكون للبعض صغيرة، لكنها عند الله كبيرة، ثم هي عند العقول المتمعنة تفاصيل تستحق السرد.
إننا شعبٌ اعتاد الألم والمعاناة حتى أضحى يعيشها كل يوم، أو يرغب غصباً عنه أن يعيشها كل يوم، إننا فقط شعبٌ غُلب على أمره، وبات يقص الأحداث مراراً وتكراراً علّه يعلم أين وقع الخطأ، وكيف كانت الأمور لتحدث لولا تلك الزلّات، إنها تلك الليلة السوداء التي حلت على القرية، وأرهقت كاهل نسائها ورجالها وأطفالها، إنها تلك الليلة التي أُحرق فيها بيت ليس كأي بيت، وعائلة ليست كأي عائلة، وهو الحريق الذي علا أمتاراً، والتصقت شرارات متطايرة منه في مخيلتنا، وعلقت رائحة دخانه في ملابسنا وبيوتنا وتأبى أن تغادر.
في تلك الليلة، عادت رهام لذلك البيت الصغير بحجمه، الكبير بأحلام مالكيه، لعلها كانت تفكر بأمور بسيطة، ماذا سأفعل غداً؟ ماذا سأطهو لعائلتي؟ كيف سأستقبل عاماً دراسياً جديداً وأبتعد فيه عن رضيعي الصغير؟ كيف سأحتمل تلك اللحظة التي أتركه فيها، لأعود وألمس في عينيه حزناً وعتاباً على هذه الساعات الطويلة؟ لعل رهام فكرت هكذا، ولعلها لم تفعل، إن الشيء الأكيد الذي نعرفه هو أنها لم تدرك أن القدر اختار لها طريقاً أخرى، طريقاً أجمل.
لقد عدنا لنلمس تلك الشرارات المتطايرة، ونتعطر بذلك الدخان الذي يحمل من رائحتهم مسكاً، نهضنا على أصوات مرتفعة تأتي من الجهة الغربية لمدرسة دوما الأساسية، إنها أصوات علَت لتخبرنا بأن هنالك حريقاً ما في بيت قريب، وتثاقلت تلك الأصوات شيئاً فشيئا لتشمل صراخ النساء وصوت أمٍ حطم أجسادنا، كان واضحاً من بين الأصوات وعابراً للضجيج، لما قالت" يا حبيبي يما".
لقد كان بشار دوابشة أول من حضر المشهد ورأى المستوطنين الذين أقدموا على هذه الجريمة، لقد لمس بعينيه تفاصيلهم، وربما استوقفه المشهد طويلاً، ولعله في اللحظة التي عاد فيها إلى الواقع ليرى أن كل ما يحدث حقيقة، كان كل شيء قد انتهى.
وهو من وصف المشهد لاحقاً فقال: توجهت صوب سعد، فأشار لي بأن أتركه وأتوجه لزوجته رهام، ففعلت وتوجهت لها، فأشارت إلي تلك الأصابع المحترقة بأنين الألم أن أتركها وأنقذ أطفالها أحمد وعلي.
ذهب بشار راكضاً صوب أحمد، لقد كان يبكي خلف الباب لا يقوى على مغادرته رغم النيران التي أَودعَت في جسده حروقاً مؤلمة، ربما رأى كل شيء، إنه حقاً رأى كل شيء، وآثر أن يحترق بالنيران على أن تُحفر تلك الصورة البشعة للمستوطنين في عقله.
تركه بشار وتوجه صوب علي، صوب الغرفة التي خُزن صوت بكائه فيها، لكنه لم يستطع فتح الباب، فأكلت النيران جسد عليٍ الرضيع الغض، وعاد لرهام فوجد النيران قد أكلت جسدها هي الأخرى، ثم عاد لسعد ولم تكن حالته أفضل بكثير.
إنه هذا المشهد من يعيدنا لغزوة اليرموك، غزوة ربما تكون حفرت في ذاكرة كثيرين بمشهدٍ أكبر من أن ينسى، فلقد تعلمنا منها مبدأ الإيثار، وأي نوع من الإيثار إنه إيثار بالحياة الغالية.
هناك على أرض المعركة نادى عكرمة بن أبي جهل: من يبايعني على الموت؟ فبايعه عمه الحرّاث بن هشام، وضرار بن الأزور بحضور الصحابة جميعاً، فقاتلوا حتى اتخموا بالجراح، ولما آلمتهم تلك الجراح طلبوا الماء، حتى إذا جاء الساقي فاقترب من أحدهم نظر إلى أخيه الجريح بجانبه وقال اسق أخي أولاً.
وانتقل الساقي لأخيه الذي بدوره قال: ادفعه إلى أخي يشرب أولاً، حتى إذا خلص الساقي إلى جريح تل وجريح، لم يشرب منهم واحدٌ قبل أن يفعل أخاه، ليعود الساقي إلى أول من بدأ سلسلة الإيثار، ويجده قد فارق الحياة، وكذلك من بعده الباقون دون أن يشرب أي منهم ولو جرعة قليلة من الماء، وكانوا بذلك مثلاً في الإيثار يضرب؛ ليتعلم منه من بقي على قيد الحياة بعدها.
كذلك فعل آل دوابشة، وكذلك حضرت هذه المقارنة، لتكون خفيفة تعيد للأذهان مشهد تلك الغزوة، وتصور الساقي بشار يعود لهم واحداً تل والآخر، ويجد أرواحهم قد فاضت كلها إلى بارئها، هناك ستسقى هذه الأرواح من ماء لن تظمأ بعده أبداً.
لقد فطن أهل القرية إلى هذه المقارنة لاحقاً، وأضيفت إلى سلسلة مقارناتٍ وقصصٍ ومصادفاتٍ كانت كبيرة على عقولنا، وتقلبها صدورنا، علَّها بذلك تريح بعضاً من ألمٍ يعتصر قلوبنا.