أصداء- تقرير: إسراء غوراني/ تصوير: محمد أحمد ترابي

من أكثر ما يلفت نظر المتجه إلى مدينة أريحا، مزارع النخيل على طول الطريق ومد البصر، والتي يزداد عددها كلما اقتربت أكثر من مدينة القمر، التي تمتاز عن سائر المدن الفلسطينية بحرارة طقسها صيفا ودفئه شتاءً، كما تمتاز عن مدن العالم بتراثها الضارب في عمق التاريخ، فهي أقدم مدينة في العالم على الإطلاق.

خرجنا من مدينة نابلس قاصدين التعرف على مدينة "القمر" عن كثب، والتي يعود تاريخها إلى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وتعود تسميتها إلى أصل سامي كنعاني،  فكلمة أريحا مشتقة من (يرحو) أو (اليرح) في لغة جنوب الجزيرة العربية وتعني القمر.

معالم أموية

قصر هشام كان أولى محطاتنا في أريحا، فما زالت بقايا الأعمدة والآثار المصبوغة بالصبغة العمرانية الأموية موجودة فيه، على الرغم من أن القصر مدمر في معظمه، بفعل الزلزال القوي الذي ضرب المنطقة عام 749 للميلاد.

ويبعد قصر هشام حوالي 2 كيلو متر عن مركز مدينة أريحا، ويقع على الضفة الشمالية لوادي نويعمة في وادي الأردن، وينسب القصر إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بناءً على الدلائل الكتابية التي اكتشفت في الموقع، ولكن يعتقد أن الخليفة الوليد بن يزيد الذي جاء بعد هشام بن عبد الملك هو الذي شيد هذا القصر، في الفترة الممتدة ما بين عامي 743- 744 للميلاد.

ويتكون قصر هشام من قصر، وحمام كبير، ومسجد، وحوض ماء مزخرف، ويحيط بهذه البنايات التي شيدت على محور يمتد من الشمال إلى الجنوب، سور خارجي غير مكتمل، كما أن القصر كان يتكون من بناء مربع بطابقين، وتحيط به أبراج دائرية عند الزوايا ما زالت بقاياها موجودة حتى الآن.

وتشير الدلائل إلى أن الطابق الأرضي والغرف الموجودة فيه كانت تستخدم للضيوف والخدم، كما أنه يحتوي على مسجد ما زالت آثار محرابه موجودة، وكان الطابق العلوي من القصر يستخدم جناحا للسكن، وعثر على نماذج زخارف نباتية على بقايا جدران غرف الطابق العلوي، التي بقيت معالم بسيطة منها بعد الهدم الذي لحق بالقصر.

شجرة مقدسة

وكان لنا وقفة عند شجرة الجميز المقدسة وسط مدينة أريحا، والتقينا هناك بمجموعات من السياح الأجانب الذين جاءوا للتعرف عليها عن قرب نظرا لقداستها عند المسيحيين، ويوجد في المكان مجموعة من الباعة اتخذوا من ظل الشجرة مكانا يجلسون تحته، ويعرضون بضائعهم على عربات بسيطة، فدخلهم يعتمد على البيع في هذه المنطقة التي يقصدها آلاف السياح سنويا.

أبو محمد أحد الباعة الذين التقينا بهم تحت الشجرة، وكان يضع أمامه أنواعا مختلفة من التمور التي تنتجها مدينة أريحا، أخذ يحدثنا عن ميزة أريحا عن باقي المدن الفلسطينية وتحديدا في زراعة الأنواع المختلفة من التمور، شارحا لنا ميزات كل نوع من التمور عن غيره.

واستطرد أبو محمد متحدثا عن الأعداد الكبيرة من السياح والزوار المحليين، الذين يأتون خصيصا للتعرف على شجرة الجميز المقدسة، حيث استمدت هذه الشجرة قداستها عندما وقف المسيح عليه السلام تحتها ليلتقي بزكا العشار الذي كان مبغوضا من المسيحيين بسبب جشعه، فهو جامع للضرائب ومرابي.

وبحسب الروايات فقد استطاع المسيح عليه السلام هداية زكا العشار بعد أن تناول معه الطعام في بيته، فأعاد العشار الأموال لأصحابها، وتصدق بجزء من ماله على الفقراء والمحتاجين.

متحف روسي

وفي وسط أريحا أيضا وبالقرب من شجرة الجميز يتربع المتحف والمتنزه الروسي، الذي يقع على أرض "يواساف" التي امتلكتها روسيا عام 1883 للميلاد، وتم بناء المتحف عام 2010، ويتم فيه تقديم عرضين، العرض الأول بعنوان "روسيا في الأرض المقدسة" ويضم مجموعة من الصور الفوتوغرافية ونسخ من المواد الموجودة في المتحف الحكومي في روسيا "الأرمتاج".

والعرض الثاني تحت اسم "أريحا البيزنطية"، ويقوم على قاعدة المكتشفات من القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن الثامن عشر بعد الميلاد، كما تحتوي حديقة المتحف على مجموعة كبيرة من نباتات منطقة البحر المتوسط والمذكورة في الإنجيل.

 أقدم مدينة مأهولة

غادرنا المتحف الروسي متجهين إلى تل السلطان الذي يعود تاريخه إلى العصر الحجري الحديث، وهو يمثل أقدم مدينة مأهولة بالسكان في العالم، ويقع تل السلطان على عمق 250 مترا تحت سطح البحر الميت، وهو بذلك أخفض بقعة على وجه الأرض.

وفي منطقة تل السلطان التقينا بالباحثة "كيارا" التي جاءت مع مجموعة من زملائها ببعثة من جامعة روما الإيطالية لإجراء البحوث والتقيب في المكان، حيث تقوم دائرة الآثار الفلسطينية بالتنقيب فيه بالتعاون مع جامعة روما "لاسبيانزا"، ضمن مشروع إعادة تقييم الموقع وتأهيله سياحيا.

وأخذت كيارا تتحدث لنا عن طبيعة عملها مع زملائها الذين جاءوا من إيطاليا قبل أسبوعين، ويقوم عملهم في الوقت الراهن على تنظيف المكان بدقة للكشف عن الآثار الموجودة فيه، حيث تشير الأبحاث والدراسات التي أجريت على الموقع أنه شهد ازدهارا حضاريا في العصر البرونزي الذي يعود للألف الثالث قبل الميلاد.

وأشارت إلى أنهم الآن يعملون على تنظيف المنطقة التي تعود للعصر البرونزي الأوسط، لإجراء الدراسات عليها، منوهة إلى أن طبيعة الحجارة والجدران الموجودة في المنطقة تشير إلى أنها كانت مناطق مأهولة بالسكان.

كما أن تل السلطان يقع بالقرب من عين ماء تدعى "عين السلطان"، وهي نبع ماء فوارة على مدار العام.

محج للطوائف المسيحية

في موقع آخر وفي أعلى مناطق أريحا يقع دير قرنطل الذي يقصده الحجاج المسيحيون من دول مختلفة، فخلال جولتنا في دير قرنطل التقينا بمجموعة حجاج أفارقة تحملوا عناء السفر من بلادهم إلى فلسطين لزيارة دير قرنطل والتعبد فيه، معبرين عن سعادتهم بزيارة المكان بكلمات بسيطة بادرونا الحديث فيها بالرغم من أنهم يتلعثمون بالعربية.

ويبلغ ارتفاع دير قرنطل 350 مترا فوق مستوى سطح البحر، وتعني كلمة قرنطل "جبل الأربعين"، وهو الموقع الذي قضى فيه المسيح عليه السلام 40 يوما صائما ومتعبدا، وفي هذا المكان لحق به الشيطان كما تذكر روايات الإنجيل، لكن المسيح رد عليه بالقول: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، ومن هذه الحادثة جاءت تسمية المكان وقداسته.

في مكان قريب من دير قرنطل الذي يقصده السياح والمحليون يجلس باسم عواودة الذي يحترف فن الرسم وصنع الزينة من الرمل، فهو يستعمل الرمل المصبوغ بألوان مختلفة في رسم مناظر طبيعية داخل الزجاجات.

عند حديثنا معه أشار باسم إلى أنه يشعر بالمتعة والانسجام بعمله في هذه الحرفة وفي هذا المكان، بالرغم من أن هذا العمل متعب جدا ويتطلب دقة كبيرة، ولكنه يكتسب أهمية خاصة بسبب أهمية المكان الذي يقصده آلاف السياح، الذين يأخذون معهم هدايا تذكارية من مدينة أريحا، فهذا العمل مجدٍ اقتصاديا بسبب السياحة النشطة.

وفي آخر محطاتنا في أريحا زرنا البحر الميت الذي يقصده السياح والزوار للاستجمام والاستمتاع بمنظره الخلاب، وللتعرف على أكثر البحار تميزا في العالم، فهو أشد بحار العالم ملوحة، كما أن الكائنات المائية لا تعيش فيه، والكثيرون يقصدونه لأغراض علاجية، فيقال أن طين البحر الميت يستخدم لعلاج مختلف الأمراض الجلدية.

غادرنا أريحا بعد يوم طويل في أحضان التاريخ، حاملين معنا بعضا من الصور التذكارية لآثارها، التي بقيت شاهدة على حقب تاريخية اندثرت فيما مضى، لكنها خلفت وراءها شواهد تدل أنها مرت من هنا.