كتبت: ميس حسون
كان جالسا هادئا تملؤ وجهه ابتسامته المتعبة المرهقة المليئة بحكايات الثورة, احتار قلمي من اين يبدأ!! فهناك الكثير من البدايات في حياة ذاك الفدائي الصغير الذي اخذ يكبر وينضج على أزيز رصاص البندقية.
شدني بصوته الرجولي ولفت نظري الى وجهه الاسمر المليء بالحكايات، لم اكن اتوقع ان اسمع ما سمعته من بين تلك الشفاه المتعبة.
بدأ ينفث السيجارة تلو الاخرى قبل ان ينطق باي كلمة بعد, فحياته المليئة بالاسرارالمعلنة تحيره من اين بالفعل يبدأ: بطفولته؟ ام برجولته؟ ام بالمقاومة؟.
أسند ظهره ورفع قامته وبدأ بالحديث معرفا عن نفسه "أنا عمر محمد عفانة مواليد 27/3/1963 من قرية تل جنوب غرب نابلس, عشت في اسرة بسيطة مكونة من والدي الحاج محمد عفانة وامي الحاجة مريم (ام فتحي)، واخوتي الخمسة وكنت انا في الترتيب الثالث بين اشقائي الذكور".
عاش عمر طفولته في ظروف صعبة نتيجة ما الم بهم من مصائب الاحتلال من اسر وقتل وتعذيب وتشريد ونسف وهدم, مع ابتسامته الحزينة يقول عمر "انني اذكر جيدا الايام الصعبة التي عشتها مع اسرتي المناضلة".
عمر الطفل الذي نضج قبل اوانه وتغيرت مفاهيم الطفولة بل مفاهيم الحياة جميعها لديه, ففي سنة 1969 بدأت الحكاية ....
ال69 بداية الالم والمعاناة
"اعتقل والدي وحكم عليه بالسجن المؤبد (مدى الحياة) وعلى اثر ذلك اعتقلت والدتي ايضا، عاش الالم صغيرا حيث اعتقل والده وحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة, واعتقلت والدته لمدة ثلاثة أشهر اطلق سراحها فيما بعد بسبب الام المخاض التي كان تعاني منه , كانت امه حاملا باخيه الاصغر عبد الرحمن.
ولم يكتفي الاحتلال باعتقال والديه بل قام بنسف وهدم منزلهم البسيط في قريتهم تل, فتشرد عفانة.مع اخوته دون ملجا، "تشردنا وتعذبنا انا واخوتي بعد هدم منزلنا واعتقال والدينا وكنت حزينا جدا لما الم بنا".
لم يكن بيدهم حيلة سوى ان ينقذوا بعض ما تبقى من اثاث منزلهم المحاصر تحت الركام, وبالفعل قام عمر واخوته بذلك واوجدو لنفسهم منزلا بين اشجار التين, واستمروا على هذا الحال لعدة ايام قاوموا فيها حرارة النهار وبرودة الليل.
"ما زعلنا على حالنا اتاقلمنا مع اشجار التين والحشرات رغم انو اخوي فتحي انقرص اكثر من مرة بس ربنا ستر".
ومع ذلك لم تهتز لعمر واخوته اي شعرة ولم يستسلمو لظروفهم القاسية وصبروا وتحملوا الا ان فرج الله عليهم, وانتقلو بعد ذلك الى منزل قديم مهلهل لاحد اقربائهم في عمان.
"البيت الي انتقلنا عليه وضعه ما كان احسن من بيت اشجار التين".
تكررت مأساتهم مع ذلك البيت القديم المليء بالحشرات والزواحف فما يميزه عن بيت الاشجار السقف الذي حماهم من حرارة النهار وبرودة الليل, ومع كل ذلك استطاع عمرعفانة واخوته من التاقلم والتغلب على ظروفهم رغم بعض الخوف الذي كان يسكن في قلوبهم.
حياة عمرالطفولية كانت مميزة عن بقية اطفال القرية فهو عاش الكثيرمن التجارب قبل اونه.
طفولة عمر. وتجربة العمل
بعد أسر والده وتشتت العائلة تحمل عمرعفانة المسؤوليات منذ صغره لاعالة المنزل وتوفير القوت اليومي للعائلة, فبدأ عمر بالعمل بعد المدرسة, باع المرطبات والحلويات والذرة المسلوقة او ما تيسر له في ذلك الوقت، كان متميزا جدا في اجتذاب الزبائن فذاك الطفل ذو االسبع سنوات كان محبوبا لفصاحته وذكاءه وقدرته في التعامل مع الغير وبناء العلاقات الاجتماعية.
بايمائاته العجيبة تنهد شوقا للماضي رغم المه!! "كنت استيقظ مع الفجر ابيع قبل ان اذهب الى المدرسة وبعد رجوعي منها كنت اقضي كل الوقت في بيع الحاجيات".
فعمر رغم طفولته كان ناضجا فعلا, فقبل كل شيء كان همه الوحيد هو الحفاظ على سمعة والده النضالية والحفاظ على راحة امه وارضائها وتخفيف المعاناة عنها فهو لم يكن يحب ان يرى امه تعمل في اي مكان , فعقله الكبير في جسده الصغير مكنه من التحمل وبذل كافة الجهود للحفاظ على ما هو مهم بالنسبة له.
استمرت حياة عمرالطفولية بكل ما هو صعب ومؤلم في ظل غياب والده االمحاصر خلف قضبان الاسر, ورغم ذلك لم يبخل عمر على نفسه ببعض المرح فقد كان يعشق اللعب في زقائق قريته تل, والجري في سهولها وجبالها.
"حكاية والدي جعلتني حتى ان اكون مميزا في لعبتي الطفولية".
كان عمر يعشق لعبة اليهود والعرب التي كانت تمثل مفهوم الحياة بالنسبة اليه, ضحك ضحكة طفل مشاكس وهو يقول: "كنت اكسر اخشاب الاشجار واصنع منها بنادق لي ولجميع اصدقائي", فثقافة االوطنية، والمقاومة، والثورة كانت مجسدة في لعبته الطفولية فهو لم يكن كغيره من الاطفال مولعا بالجلة او الاكزة.
غريب امره!! اذ كان وكانه مخرج صغير للعبة في فلم وثائقي قصيرالمدة يحمل عنوان (لعبة اليهود والعرب), فعمر بالنهاية يبقى طفلا صغيرا بريئا يحب ان يعيش يومه جميلا سعيدا كبقية الاطفال .
البسيسة تاريخ ملكي عظيم في حياة عمر
فالبسيسة هي اكلة عمر المفضلة " كنت اشعر بأنني ملك عندما اتناولها"
فالبسيسة عبارة عن عجينة مكونة من الزيت والسكر والسمسم كانت امه مريم تعدها اثناء صنعها لخبز الطابون , فعمر كان يعشق هذه الاكلة البسيطة مع فنجان من الشاي وبجانب والدته التي مزجت حبها وسكر حنانها مع حبات السمسم وبلورات السكر فعمر كان يشعر بأنه ملك عندما يتناولها فالبسبوسة تاريخ ملكي في حياته.
" كنت طفلا ذكيا قويا ولم اقصر في واجباتي المدرسية رغم ظروفي "
فرغم الظروف التي مر بها عمر في طفولته الا انه كما ذكرت لكم سابقا لم يستسلم لاي ظرف من ظروف حياته الصعبة, فعمر كان مميزا ونشيطا في مدرسته, كان يجيد الحفظ والدراسة والمشاركة في الحصص المدرسية ولم يقتصرالامرهنا !! فعمر كان بارعا ماهرا في الكتابة والغناء كان عاشقا لفريد الاطرش وام كلثوم ومحبا لاغاني الثورة والوطنية التي مازال بعضها عالقا في ذهنه.
خارطة الطريق الى والده في سجون الاحتلال
خارطة الطريق الى بئر السبع وعسقلان ونفحة خطت في عقله صغيرا في الطريق لزيارة والده, فعمر كان يعشق اليوم الذي يذهب به لكي يرى والده القابع خلف القضبان, ليتلقى منه النصائح التي كانت تشحنه بالهمة والقدرة على الصبر والصمود والتحمل رغم الصعوبات التي كان يواجهها في الطريق لزيارته.
"كانت زيارة والدي معاناة من نوع اخر فهي كانت بالنسبة الي مغامرة الى عالم اخر "
كان عمر يستيقظ مع الفجر ليبدأ رحلته مع امه في حفلات الصليب الاحمر متجها نحو والده القابع في سجن بئر السبع ومرات اخرى في سجن نفحة او عسقلان, رسم الكثير من الحكايات اثناء رحلته وشوقه الكبير لوالده جعله عصفورا طائرا فعمر لم يكن يهتم لمشقة السفر فذاك الطفل صاحب الخيال الواسع جعل خارطة الطريق مليئة باحلام الطفولة المشتاقة الى حضن الاب الغائب.
عمر في غياب والده كان متعلقا جدا باخوته الذين يكبرونه سنا (فتحي وابراهيم) كان محبا لهم ومتعلما منهم ولم يشعر يوما بانه الافضل بينهم رغم ما تحمله من مسؤوليات جسام, فعمر اعتبر اخوته بشكل خاص هم سند حياته وقدوته وقوته على الاستمرار في غياب والده المحاصر. ولم ينسى عمر والدته التي يعود لها الفضل الكبير في تربيتهم فامه علمتهم معنى النضال والقدرة على الحياة والمقاومة رغم المعاناة التي المت بها, فهي الاخرى لم تسلم يوما من اعتداءات الصهاينة, فالحاجة( ام فتحي) استطاعت ان تربي رجالا يعتمد عليهم في جميع الاحوال وفي كل المراحل .
واستمر عمر في حياته... حتى وصل للمرحلة الثانوية والتي شكلت مفصلا هاما في حياته, وتجربة من نوع اخر؟!
بداية ال78 التقاء الجسد بالروح المعتقلة منذ عشر سنوات
ما زالت الحكاية مستمرة... وما زال عمر مستمر مع استمرارها فدوما للحديث بقية في حياته !؟
الطفل الصغير اصبح شابا مراهقا في الخامسة عشر من عمره, "ففي سن الخامسة عشر من عمري بدأت حكايتي الخاصة "
في هذا العمر عاش عمر تجربته الاعتقالية الاولى, لكن لم تكن جديدة عليه وان كانت الاولى !!؟؟ فعمر كان معتقل الروح منذ الصغر باعتقال والده القابع خلف زنازين الاحتلال, "لم اشعر انها المرة الاولى فانا كنت اسير الروح مع والدي المحاصر, والذي حصل فقط ان جسدي التقى مع روحي التي كانت تسكن في حضن ابي ".
حكاية الاعتقال
بروح الفدائي الصغير وبفرح غامر وبصوته الشذي بدأ عمر عفانة بسرد حكايته في تجربته الاعتقالية الاولى, يقول عمر انه اعتقل على اثر النشاط الذي قام به عشية عيد الاضحى المبارك بامرمن والده الحاج محمد عفانة.
قبل عيد الاضحى بعشرة ايام ذهب عمر لزيارة والده متحمسا لسماع الجديد منه ففي كل مرة كان يذهب فيها الى والده كان يسمع الجديد من حكاياته الشيقة, اراد الاب ان يحقق لولده طموح الفدائي الصغير, فطلب من عمر ان يقوم عشية العيد بتعليق الاعلام على مسجد ومدرسة القرية وان يكتب شعارات وطنية على الجدران ( عيدنا يوم عودتنا , فتح مرت من هنا , فلسطين حرة عربية) كان عمر منسجما مع حديث والده فرحا لما يسمع ومتحمسا لفعل ذلك, تمنى عمر لو ان الوقت يمر بسرعة البرق, " ما سدقت وانا اروح على الدار ".
بعد عودته الى المنزل ظل عمر متشوقا لمجيء ذلك اليوم, لم يغمض له جفن طيلة هذه الفترة وهو منهمك في التفكير والتخطيط للقيام بالعمل على وجه صحيح .
جاء اليوم المنتظر واستعد عمر استعدادا لا باس فيه فاشترى علبة من الطلاء ذو اللون الاحمر وحضر الاعلام وفي ساعة الفجر انطلق ليخوض معركته النضالية الاولى, وبالفعل استطاع عمر ان يعلق الاعلام التي خاطتها امه وان يكتب الشعارات التي حفظها من والده, بعدما انهى عمله عاد عمر الى منزلهم متسللا كي لا يراه احد وينكشف امره.
"شعرت وكأنني فدائي حقا "
بتساؤلات كثيرة كانت تراوده خطا عمر خطواته بعد بزوغ الشمس الى القرية ليرى نتائج العمل الذي قام به, فتفاجأ عمر بتجمهر الناس وبحديثهم وتساؤلاتهم حول من قام بهذا العمل.
ضحك عمر بصوت عال وبفرحة متلألأة في عينيه وقال " الناس تساؤلو كثيرا فمنهم من قال ان الفدائيون هم من فعلوا ذلك ومنهم من قال انهم عملاء وجواسيس ومنهم من قال ايضا ان هذا عمل عبثي لالحاق الضرر بالقرية ".
تناقلت الاشاعات في ذلك الوقت وتداول الناس الحديث وتم اجتياح القرية من قبل قوات الاحتلال والمخابرات برئاسة (ابو النور) الذي كان مسؤولا عن قرية تل في تلك الفترة, عمر كان مندهشا لما يراه ويسمعه لدرجة انه شعر بالغرور واراد فعلا ان يصرخ بصوت عال انه من قام بهذا العمل لكن عمر كان حريصا جدا على سرية عمله كما اوصاه والده .
عاد عمر الى امه مسرعا فرحا بنتائج عمله, كانت امه ايضا حريصة كل الحرص على ان لا يعلم احد بما قام به خوفا عليه وحماية له, لكن بالطبع غرور عمر لم يمكن من الاستمرار في التزام الصمت حيث انه افشى بسره لصديقه المقرب اليه ولعائلته (عصام), لم تنتهي القصة هنا فعصام كان معجب جدا بهذا العمل لذلك اراد ان يتباهى ويتفاخر امام الفتاة التي كان يحبها فاخبرها بانه من فعل ذلك .
اعطي امراة سرا تنطق... فهذا امر طبيعي
بدات الفتاة بالكلام والحديث عن ما قام به عصام على حسب ظنها, فتناقلت الاشاعات حتى ذيع الخبر في جميع انحاء القرية, في صباح احد الايام دخلت القوات الاسرائيلية الى القرية وحاصرت منزل عفانة.
"شعرت بخوف شديد, وامي علمت بانهم قادمون من اجلي, وحصلت مشادة حادة جدا بين امي وابو النور حينها ".
لم يرحمو طفلا في الخامسة عش من عمره, بل اعتقلوه ونكلوا به ابشع انواع العذاب والضرب فعمر ذو الجسد الضعيف لم يصمد امام وحشية التعذيب فاعترف في اليوم الرابع في التحقيق معه, وعلى اثر ذلك تم اعتقاله والحكم عليه بالسجن لمدة اربعة اشهر ودفع 40 دينار غرامة مالية, فمن هنا كانت التجربة الاعتقالية الاولى لعمر عفانة.
لم يجد عمر نفسه غريبا في السجن لانه كان مطلعا على كل الامور هناك وكانت لديه ثقافة وطنية واعنقالية فلم يشعر بالخوف او التوتر لوجود اقرباء له في السجن ايضا.
"هذه التجربة ساعدتني ان اتميز "
استطاع عمر ان يستفيد من تجربته الاعتقالية الاولى, تعرف خلالها على اشخاص قادة وفدائيين وتعلم الكتابة والتخطيط والتحليل السياسي, تميزه لم يقتصرهنا فهذا الاعتقال كان الجنة بالنسبة له حيث استطاع عمر ان يلتقي بوالده بعد معاناة طويلة تمثلت باضرابه عن الطعام لمدة ثلاثة ايام استطاع من خلالها ان يجبر ادارة السجن ان يأخذوه الى والده, وبالفعل هذا ما حصل حيث انتقل عمر الى سجن جينين ليتفاجا برؤية والده هناك بعد انقطاع دام عنه عشر سنوات, ليقضي عمر بعدها فترة سجنه في حضن والده, اعتبر عمر ان هذه الفترة هي من اهم فترات حياته واكثرها سعادة.
"كنت سعيدا جدا لرؤية والدي لانني شعرت حينها بطفولتي المسلوبة وانا في حضنه وبين ذراعيه "
استفاد عمر من والده كثيرا وتعلم منه الكثير من الامور التي لم يكن يعرفها فادته في حياته بعد خروجه من السجن, "كان ابي قدوتي وقدوة لجميع الاسرى في ذلك الوقت وكلمته كانت مسموعة ولم يكن امره مرفوضا ".
الفرحة لم تدم طويلا
ففرحة عمر بلقاء والده لم تستمر طويلا ليفارقه مرة اخرى بحزن ولوعة شديدة بعد ان انهى فترة اعتقاله, "عدت الى المنزل حزينا لفراق والدي" تمنى عمر لو طالت فترة اعتقاله ليبقى طفلا في حضن ابيه, فمرارة الفراق ذو العشر سنوات لم تشفها فترة الاربعة اشهر, لكن خروجه لم يكن بلا فائدة فرغم المه الا ان عمر خرج بكنز ثمين من ثقافة وطنية وسياسية فاجأ بها اهل قريته الذين كانوا يرجعون اليه لمعرفة اي امر يريدونه.
"حتى بعد خروجي من السجن ورغم المي لفراق والدي لم يرحموني "
لم يسلم عمر من الاحتلال حتى بعد خروجه من المعتقل فقد حرم عمر من اكمال الدراسة في قريته ومن الدخول الى المدرسة لاعتقادهم من انه يشكل خطرا على الطلاب فالتحق بمدرسة الفاروق الثانوية في نابلس واكمل دراسته الثانوية هناك على حسابه الخاص .
المفاجأة التي لم تكن بالحسبان ؟!!
بتنهيدة مليئة بمزيج من الفرح والحزن والشوق استعاد عمر انفاسه وكأنه رجع الى الماضي عشرات السنين, فعمر الان بلغ السابعة عشر من عمره مع بداية 1979 شكلت هذه السنة بالنسبة اليهم تغيرا كبيرا في حياتهم ومفاجاة لم تكن بالحسبان.
"في هذا العام شعرت وكان فلسطين حررت بالفعل وروحي الان عادت الى جسدي مرة اخرى "
ففي عام ال1979 حدثت اول عملية تبادل للاسرى بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل اطلق عليها عملية الليطاني (النورس) خطف فيها طيار اسرائيلي كان معتقلا في جنوب لبنان في ذلك الوقت وعلى اثرها اطلق سراح 67 اسير فلسطيني ذو الحكم المؤبد من ضمنهم الحاج محمد عفانة .
كانت المفاجاة بخروجه صاعقة لعائلته ولاهل قريته فلم يكن عمر يتوقع ان يخرج والده بهذه السهولة وبهذه الطريقة فقد كان خروجه وعودته الى المنزل مفاجاة جميلة جدا خاصة وان عمر وعائلته لم يسمعوا بخبرعملية التبادل لسوء الاعلام في ذلك الوقت.
"شعرت ان لاوجود للاحتلال في ذلك الوقت, فهو اصبح ورقة طائرة بالنسبة لي ولعائلتي, لم يستطع عمر ان يعبر عن فرحته بعودة والده لشدة هول المفاجاة عليه لكنه شعر بالفعل بان الحياة بدات من جديد, اختلفت حياة عفانة بعد خروج والدهم من جميع النواحي فهم استطاعوا ان يستعيدوا بعضا من الفرح الذي كان مسلوبا منهم لفترة طويلة استطاع عمر ان يرى الفرحة في عين والدته واخوته الصغار.
رغم خروجه وامتلاء قلوب اطفاله وزوجته بالفرح الا ان الحاج محمد لم يسلم من اعتداءت الصهاينة ومضايقاتهم,فقد فرضت عليه الاقامة الجبرية في قريته ومورست ضده شتى انواع العنف والضغوطات لتهجيره لكن الحاج عفانة لم يستسلم لذلك بل صبر وتحمل هذه الالام والمعاناة.
"كان ابي ملتزما وذو حس ديني لذلك عمل اماما في مسجد القرية "
استطاع الحاج عفانة ان يقاوم الضغوطات التي فرضت عليه واستمرت حياته رغم ذلك بتواصله مع الناس وبث الخطابات لهم وشحنهم بالحس الوطني والمقاومة, فالحاج محمد كان يستغل امامته لشحن الناس وتوعيتهم وارشادهم ودعوتهم للصمود فالحاج عفانة كان جريئا الى ابعد الحدود.
لم يقتصرالامرهنا فالحاج محمد عفانة قاوم (ظاهرة روابط القرى) التي ظهرت حينها وهي عبارة عن مجموعة من العملاء والمرتبطين مع المخابرات الاسرائيلية استلموا في وقتها المؤسسات والبلديات وعاثوا فيها فسادا, هذه الظاهرة كانت مرفوضة من منظمة التحرير وحركة فتح لذلك قامت المنظمة بمقاومتها واعدمت الكثير من العملاء والجواسيس, كان الحاج عفانة على راس من قاوم هذه الظاهرة.
في اواخر عام 1979 وبداية 1980 رجع ابراهيم وهو الاخ الاكبر لعمر عفانة من بيروت كانت العائلة تنتظره على احر من الجمر لكن فرحتهم لم تكتمل؟!! اذ اعتقلته القوات الاسرائيلية عن الجسر وحكمت عليه بالسجن لمدة ست سنوات, استقبل عمر الخبر بحزن شديد لكن بنفس الوقت لم يكن هذا الامر جديدا عليهم فالاعتقال اصبح جزئا من حياتهم, لم يرحمهم الاحتلال في اعتقال ابراهيم بل استمروا في تنكيلهم وتعذيبهم.
لم يكتفي الاحتلال بكل ذلك بل اصر ان يزيد معاناة هذه الاسرة الصامدة المقاومة ليسلب منهم روح ابنهم الاكبر فتحي, ففي 17 رمضان 1981 جاء نبأ استشهاد فتحي في الحرب على لبنان, الى متى سيستمر الاحتلال في سلب الفرحة من هذه الاسرة؟؟! مع كل ذلك لم يؤثر استشهاد الاخ الاكبر للعائلة على عمر او والده, "ابي كان يرفض ان يعزيه احد كان يطلب من الناس ان يهنوه على استشهاد فتحي وامي استقبلت الخبر بزغرودة لا تخلو بالتاكيد من دمعة حزينة ".
كان عمر في ذلك الوقت مرافقا خاصا لوالده وذراعه اليمنى, كان مطلعا على كل اسراره ومساعده في كل كبيرة وصغيرة فحياة عفانة استمرت رغم استشهاد الاخ الاكبر (فتحي) واعتقال ابراهيم. بعد كل ذلك لم يكن هناك خيار امام الحاج عفانة سوا ان يطلب من ولده عمر ان يسافر الى الاردن خوفا عليه فاستشهاد فتحي واعتقال ابراهيم شكلا هاجس الخوف في قلب الحاج عفانة من ان يفقد عمر ايضا .
" غادرت قريتي في 15/3/1982 متجها نحو الاردن رغم اني لم احب ان اسافرا ابدا فقلبي كان معلقا بابي وامي واخوتي الصغار وبقريتي تل ".
سافر عمر الى الاردن ليحقق رغبة والده ولكي يطمئنه ويخفف مقدار الخوف في قلبه , فحياة عمر استمرت بشكل عادي في الاردن وبشكل غير مميز لكنه استطاع ان يكمل جزء من دراسته والعمل, لم تدم فترة مكوثه في الاردن طويلا ليعود بعد خمسة اشهر الى الضفة مسلوب الروح وفاقدا للوعي؟!.
الزمن يعيد نفسه وحكاية التشرد عادت من جديد
صمت للحظات بعد انقطاع انفاسه, ليستعيدها مع دمعة حزن من عينيه المليئتان بالاسرار.
" كنت في الاردن وكان وقع الصدمة سيء, لم اكن قادرا على التفكير وشعرت بان الحياة توقفت هنا, استشهد والدي واعتقلت والدتي مرة اخرى ونسف المنزل من جديد وعادت بنا الحياة الى ال63مرة اخرى ".
بعدما امضى عمر خمسة اشهر في الاردن ليعود بعدها مسلوب الروح ومنكسر القلب لنبأ استشهاد والده الحاج محمد عفانة, ففي تاريخ 17/7/1982نجح الجيش الاسرائيلي في اغتيال الحاج عفانة بطريقة علنية ووحشية, فالحاج محمد تم اختطافه من قبل مجموعة من العملاء والجواسيس استطاعوا ان يختطفوه من امام مسجد الخضر في نابلس وتحت تهديد السلاح, بسيارة بيضاء من نوع فورد, لكنهم لم يكتفوا بذلك بل قاموا باجتراره الى معسكر قريب من قرية عصيرة الشمالية وهناك قاموا بتصفيته بطريقة وحشية, وبأبشع وسائل الاجرام من ضرب بالسكاكين ورميا بالرصاص وسكب ماء النار عليه والتمثيل بجسده الذي اخترقته تسعة وعشرون رصاصة ارادو من خلالها ان يوصلوا رسالة الى عائلة عفانة بان رمزهم الاكبر قد نهشته رصاصتنا.
ومع كل ذلك لم يشفى غليلهم من هذه الاسرة الصامدة فقاموا باعتقال الحاجة مريم (ام فتحي) وهدم المنزل واعتقال مجموعة من سكان قرية تل, فعادت المأساة مرة اخرى بشكل اوسع وبطريقة همجية وحشية, فهذا قدر محتم على عائلة عفانة!! فالزمن لم يتغير بالنسبة اليهم! وللحديث بقية دوما في حياتهم.
"كانت هذه الفترة هي من اسوا فترات حياتي, واكثرها ضعفا, فقدت قوتي وقدرتي على التحمل والاستمرار والمواصلة فاين ابي؟ واين امي؟ واين اخوتي؟ ".
لم يستوعب عمر نبا استشهاد والده وما الم بعائلته بعد ذلك, فوقع الصدمة كان كبيرا عليه, ليعود بعدها الى الضفة مكسورا يائسا, ولم تنتهي الحكاية؟! هنا ولم سلم عمر من الاحتلال! فأثناء عودته تم اعتقاله عن الجسر واحالته للتحقيق ومورست ضده شتى انواع التعذيب والعنف ليحكم عليه بعد ذلك بالسجن لمدة سنتين, حرم عمر على اثرها من رؤية ابيه للمرة الاخيرة ومواراة جسده تحت التراب, حتى هذه لم يسمح بها الاحتلال, فأي عذاب استطاع عمر ان يتحمل؟؟!
منقول عن وكالة ايلان الاخبارية
مبعدا قابعا لمدة سنتين في سجون الاحتلال وامه لا زالت تعاني مرارة العيش مع ولديها عبد الرحمن ونعيم الاخ الاصغر للعائلة, فالحاجة مريم (ام فتحي) فقدت الشعور بالحياة بعد استشهاد زوجها واسر ولدها عمر, فقدت الثقة بكل العالم دمرت نفسيا وجسديا فالحياة بالنسبة لها كانت متمثلة في صمود زوجها الفدائي.
"ان غاب القط العب يا فار, فالفوضى عمت الانحاء بعد استشهاد والدي"
بعد استشهاد الحاج محمد عفانة عمت الفوضى قرية تل والمناطق الاخرى فالحاج عفانة كان مسؤولا كبيرا عن عدة مناطق فقد كان المسؤول العسكري لحركة فتح في الضفة وهو المسؤل الاول والاخير ايضا عن كل العمليات العسكرية والفدائية في الضفة الغربية, فاستشهاده وغيابه احزن الكثيرين وترك بصمة حزن لن تنسى مهما طال الزمن.
بعد انتهاء فترة اعتقاله خرج عمر لممارسة حياته بعد ذلك بشكل عادي, حيث اكمل دراسته في كلية الروضة "كانت في ذلك الوقت مدرسة خاصة".
" لم يكن يهمني موضوع الدراسة رغم حب والدي لها فدراستي الحقيقية هي رحلتي في اكمال طموح الفدائي الصغير ".
لم يكن عمر مكترثا لاكمال دراسته فحبه للعمل التنظيمي والوطني والفدائي ما زال يسكن في قلبه المتالم, فطموح الفدائي الصغير رافقه حتى الكبر وتجاربه الاعتقالية العديدة, ومرارة الايام التي عاشها وثقافة الوطنية والنضالية وعلاقاته مع الكثيرين من الفدائين والقادة والثوار, مكنه كل ذلك من الانخراط بسهولة في العمل التنظيمي والعسكري.
واستمرعمر في حياته على هذا الموال لكن رغم كل ذلك لم يقصر عمر في دراسته رغبة منه في تحقيق امنية والده, حيث سافر بعد ذلك الى سوريا لاكمال دراسته الجامعية في مجال العلوم السياسية في جامعة تشرين.
" حتى فرحة الدراسة سلبها الاحتلال مني"
عاد عمر الى فلسطين في عام 1985 لاكمال دراسته الجامعية لكنه لم يسلم من الاحتلال حيث اعتقل مراتعدة منعته من اكمال دراسته الجامعية.
كانت عائلة عفانة في ذلك الوقت تشعر بالعزلة فالناس كانوا يخافون التعامل معهم لانهم كانوا يشكلون حالة نضالية ترهب العدو فكل من يتعامل مع هذه الاسرة مهددا بالعقاب.
عربية معشوقتي الصغيرة
"هي الجزء الاكبر في حياتي حلمي امنياتي حبي وعشقي منذ الطفولة "
وراء وجهه الاسمر عالم من الحب والعشق والرومانسية, من يخطر بباله ان هذا الفدائي كان يعاني فوق كل ما عانى عذاب العشق وحرارة الشوق لمحبوبته عربية التي انتظرته كل العمر وصبرت وتحملت حتى جزاها الله خيرا وجمعها مع عمر برباط الزوجية المقدس.
فرغم عدم استعداد عمر للزواج بسبب ظروفه القاسية, واعتقاله المستمر الا انه استطاع بارادته ورغم كل ما استطاع ان يدخل الفرح الى حياته وحياة عائلته بارتباطه بابنة خاله عربية والتي لعبت دورا مميزا في حياة عائلة عفانة, فلم تختلف عربية عن عمتها الحاجة مريم فهي تشبهها كثيرا فقد كانت صابرة قوية قادرة على العطاء والتضحية والتحمل.
(كفاح) الفرحة الكبرى في حياة عفانة
" كفاح هي فرحتي الكبرى والمولودة والحفيدة الاولى لعائلة عفانة "
ففي تاريخ 1/7/1985ورغم ما كان يعانيه من الام وعذاب من الاعتقالات المستمرة, الا ان كل هذا العذاب تبدد مقابل فرحته بمولودته الاولى (كفاح) فذاك الاسم البريء لم يكن عبثيا فعمر اراد ان يجسد مراحل نضاله ونضال عائلته في اسم طفلته التي لم تكن تعرف بعد معنى الحياة.
"كفاح تعبرعن المي ونضالي وقوتي وتاريخ ابي وصبر امي ودم اخي فتحي وبندقيتي فكفاح صغيرتي شاركتني المي ونضالي ورحلتي الفدائية ".
فرحة عفانة بعودة ابراهيم
بعد ان حرمت عائلة عفانة من الفرحة طويلا عادت اليهم من جديد بخروج الاخ الاكبر للعائلة (ابراهيم) من السجن سنة 1987 بعد ست سنوات من الاعتقال الذي عانى فيه مرارة الالم والعذاب , الحاجة مريم ام فتحي ارادت ان تكمل فرحتها بتزويج ابراهيم فتزوج بالفعل بعد خروجه من السجن ليقيم بعد ذلك هو وزوجته في بيت العائلة المليء بالحكايات .
فرحة هذه العائلة محكوم عليها بالشقاء الابدي!!, فلم يسلم عفانة واخوته من ممارسات الاحتلال الهمجية ضدهم خاصة بعد اندلاع الانتفاضة الاولى في نهاية 1987.
" بتاريخ 1/1/1988 دخل الجيش الاسرائيلي الى القرية واعتقلوني انا وعائلتي ".
اعتقل عمر عفانة وعائلته بصورة همجية ووحشية, فالاحتلال ما زال مقتنعا بان هذه الاسرة تشكل خطرا بالنسبة له, حكم على عمر بعدها واخيه ابراهيم حكما اداريا حولو على اثره الى سجن النقب ليقضي عفانة ست شهور وابراهيم ثمانية اشهر, كان الاعتقال هذه المرة صعبا فسجن النقب كان في بداية افتتاحه مجرد من كل مقومات الحياة فقد كان عبارة عن مجموعة من الخيام القائمة على مساحات ساشعة من الرمل الحار.
عانى عفانة واخيه ابراهيم مرارة الاعتقال في النقب فبالاضافة لسوء الاوضاع المعيشية فيه كان النقب رمزا للعنف حيث مورست ضدهم شتى انواع التعذيب والتنكيل, لكن رغم كل ذلك صمد عفانة واخيه واستمروا في مواصلة حياتهم داخل المعتقل, وامهم في الجزء الاخر من الوطن رغم صمودها تعاني مرارة الالم لفراق ابنائها وغيابهم في سجون الاحتلال, ولوعة قلبها على ولديها الاصغر الذين لم يسلمو هم ايضا من التعذيب ليقضوا فترات لا باس بها في التحقيق.
حياة عفانة بعد الاعتقال المرير في النقب
خرج عفانة من سجن النقب ليمارس حياته بشكل عادي, فقد عمل في مشغل خياطة داخل قريته تل مع زوجته عربية وامه الحاجة مريم واستمر عفانة على هذا الحال ليعيل اسرته فالمسؤوليات على عمر اخذت تاخذ حجما اكبر.
عشقه للوطن وحبه لطموح الفدائي الصغير لم ينتهي؟! فبعد خروجه من النقب انخرط عفانة ايضا في العمل التنظيمي بشكل عام والعمل العسكري بشكل خاص فتجاربه الاعتقالية كانت تزيده اصرارا لاكمال ما بدا به, فانخراطه في العمل العسكري اثناء اندلاع الانتفاضة الاولى كان ضمن مجموعات فدائية, كانت تابعة في ذلك الوقت لحركة فتح, واستمر عفانة على هذا الحال ليخوض في ال1989 العمليات العسكرية المسلحة ضد الاحتلال , فالمقاومة المسلحة لفتت نظر الصهاينة الى ان الانتفاضة بالفعل بدأت تتحول من عمل جماهيري الى عمل مسلح.
رحلة النضال الطويلة
بأهات ممزوجة بالفخر بدأ ينفث سيجارته ليحيك من دخانها حكاية نضاله الطويلة, يقول عفانة: "في اواخر ال89 بدأت رحلتي مع البندقية التي كانت رفيقتي وحاميتي الوحيدة فمن هناك ابتدأ مشواري الذي لم اعرف له نهاية ".
انخرط عمر في العمليات العسكرية المسلحة ضمن المجموعات الفدائية التي نفذت العديد من العمليات ضد الصهاينة, ففي اثناء احد عمليات تبادل اطلاق النار بين الفدائين وقوات الاحتلال يقول عمر: "استطاع اليهود القاء القبض على احد افراد المجموعة التي كنت من ضمنها واجباره على الاعتراف باستخدام شتى وسائل العنف معه ".
فقوات الاحتلال كان همها الوحيد هو ان تعرف مصدر السلاح الذي يقاتل به اولئك الفدائيين, فمارست شتى انواع التعذيب بحق الفدائي لتجبره عى الاعتراف, وبالفعل اعترف الفدائي ان عفانة هو من كان يزود المجموعة بالسلاح, فعفانة كان يمتلك مخزنا هائلا للاسلحة ورثه عن ابيه الحاج محمد عفانة الذي وهب هذا المخزن لكل من يحب ان يحمل السلاح ويقاوم الاعداء دفاعا عن الوطن.
" لقد اخذت احتياطاتي لاي عملية اجتياح بعد اعتراف الشاب علي "
فعمر كان محقا باخذ احتياطاته, حيث دخلت قوات كبيرة من جيش الاحتلال قرية تل وحاصرت منزل عفانة لالقاء القبض عليه لكن عفانة بالتاكيد استطاع ان يفر هاربا قبل مجيئهم ليشق طريقه بعد ذلك بين جبال واراضي قريته تل.
"هربت الى قمة جبل كنت ارى منه منزلنا الذي كان يدمر ويكسر امام عيناي وانا مكتوف اليدين حائراحزينا لا اعرف ماذا افعل سوى ان اراقب الوضع من بعيد, لكنني كنت على يقين من قوة عائلتي وقدرتها على التحمل فهذا الامر كان يريحني بعض الشيء لكنني وبنفس الوقت شعرت بتأنيب الضمير فما ذنب عائلتي لكي تدفع ثمن هروبي الما وعذابا؟! ".
ظل عمر على هذا الحال حتى انسحبت قوات الجيش الاسرائيلي في ساعات الصباح, ليتنفس بعدها الصعداء, لم يكن بوسع عفانة ان يخطو اي خطوة واحدة من مكانه لانه كان مهددا, في صباح اليوم التالي استطاع عمر ان يتسلل بين الاشجار رغبة منه في الاطمئنان على عائلته, فأثناء تسلله التقى بحاجة طلب منها ان تذهب الى منزلهم لتطمئن على الوضع هناك , وبالفعل هذا ما حصل لتعود الحاجة الى عفانة المختبىء بين الاشجار وتخبره انه لن يكون باستطاته العودة للمنزل .
" من هنا بدأت حكايتي في التشرد وبدأت رحلتي النضالية في البرية مع رفيقة دربي بندقيتي الوحيدة"
فعفانة الذي لم يجد لنفسه ملجا سوى احضان الطبيعة, استطاع ان يستقر في مغارة(عين المزراب) تقع بمنطقة ذات طبيعة ساحرةوهواء نقي معبق برائحة النضال والبندقية.
" في ايدي رشاشي وبدي اضلني ماشي وفرشتي ولحافي "
لم يجد عمر مؤنسا له في لياليه الخوالي سوى ان يردد هذه الكلمات الرنانة التي كان يطرب نفسه بها ويعبر من خلالها عن الوضع الذي ال به, فاوضاع عمر لم تخلو من الصعوبة لعدم قدرته وحريته الكاملة في التحرك والتنقل من مكان الى اخر, فحياته كانت مهددة في اي لحظة من اللحظات وذلك لان القوات الاسرائيلية استنزفت اعدادا هائلة للبحث عن عفانة لالقاء القبض عليه لكن دون جدوى.
لم يقصر احد من افراد عائلة عفانة في الدور النضالي الذي لعبته الاسرة منذ الازل , حتى ذاك الطفل الاصغر للعائلة (نعيم) كان له دور في اللعبة النضالية فعن طريقه استطاع عمر ان يتواصل مع من يريد والحصول على كافة احتياجاته, فنعيم كان طفلا ذكيا فصحا قادرا على فهم الامور وتحمل المسؤوليات فهو لم يختلف قط عن عمر الطفل!!!.
واستمرعفانة في رحلته بين الجبال والسهول التي كان يعتبرها حياته الحقيقية لعشقه لها وشعوره بالامان فيها, وظل متنقلا ما بين منزله الجديد مغارة عين المزراب والمناطق الاخرى المحيطة, فالمغارة كانت بالنسبة اليه جزء من حياته فحجارتها كانت مأمن لاسراره .
لم يعد هناك خيار اخر
" كان الوقت مهما بالنسبة لي وقررت ان استمر في عملي النضالي فلم يعد هناك خيار اخر غيره "
رغم الحزن الذي الم به والفراق الذي كتب عليه من جديد, لم يعد امام عفانة خيار اخر لحياته فاما ان يموت واما ان يستمر في نضاله ورحلته الفدائية لان عفانة كان غير قادر على العودة لممارسة حياته الطبيعية بين عائلته ومحبيه وقريته, فخياره الاخير هو النضال ولا شيء سواه.
حكاية الثأر," فتاة من طولكرم ساعدتني في الوصول الى قاتل ابي "
أخذ يتنفس برودة الهواء عله يطفىء حرارة قلبه ليبحر بعينيه صوب الحكاية, وبصوته الشذي بدأ بسرد الرواية...
" اثناء مطاردتي وصلتني معلومات عن فتاة من طولكرم كان لديها الاستعداد لتوصلني الى قاتل ابي العميل (يونس مصاروي) من الطيرة, وذلك بعد تورطها في مستنقع الخيانة؟! الذي كانت دائما تود ان تتخلص منه, ذهبت اليها لاقابلها في طولكرم وعرفت نفسي اليها باسم (ابو كفاح من جينين), واظهرت لها مدى صدقي معها ورغبتي في مساعدتها فبراي ان من حق هذه الفتاة ان تاخذ فرصة للتخلص من العار الذي الم بها ".
وبالفعل استجابت الفتاة(ع) لابو كفاح وعملت على استدراج الخائن (يونس مصاروي) لتلتقي به في منزلها بعد 48 يوما من التحضير والتخطيط والاستعداد لهذه العملية.
الخائن يقع في شر اعماله
بنبرة حماسية وكأنه يعيش اللحظة يكمل ابو كفاح الرواية: " في يوم الزيارة التاريخية قمت بنصب كمين له داخل منزل الفتاة بعد ان علمت بخبر وصوله انا ومجموعة من الشبان, قبل ذلك قمت بترحيل اهل الفتاة وتامينهم عند احد الجيران حتى لا يصابو بأي مكروه ".
في هذه اللحظات وصل الخائن(مصاروي) الى منزل الفتاة (ع) متخفيا بملابسه الثقيلة ليجلس بعنجهيته وكبريائه غافلا المصير الذي ينتظره.
" اخبرتني الفتاة بعد جلوسه بأنه مسلح فطلبت منها ان تحاول تجريده السلاح, فادعت (ع) بأنها معجبة بسلاحه وتود ان ترقص به على انغام الموسيقى, وبالفعل هذا ما حصل لتتوجه (ع) بعدها الى المطبخ بحجة انها تود اعداد الشاي له في هذه اللحظة قمت بتفريغ مسدسه من الرصاص وطلبت من الفتاة (ع) العودة اليه بسرعة حتى لا يشك باي شي ".
عادت (ع) الى يونس وكأن شيئا لم يكن, واستمرت في الرقص فجمالها الاخاذ سلب يونس عقله ليتفاجا حينها دخول عفانة ورفاقه عليه كالقدر المستعجل.
"عندما دخلنا عليه اشهرنا السلاح بوجهه فحاول المقاومة لكننا تغلبنا عليه وقيدناه بالحبال, فرغم عنجهيته وجبروته فهو لم يصمت للحظة موجها لنا كافة الشتائم والالفاظ النابية ".
لم يشعر عمر سوى بالراحة النفسية فهو الان وكأنه خلق من جديد فالخائن اصبح تحت رحمته وبين يديه فابو كفاح لم ينسى للحظة عملية الاغتيال الوحشية لوالده الحاج محمد عفانة, فمصاروي لم يعلم بعد ما سيواجه!؟
"عندما صارحته بأنني عمر عفانة ابن الحاج محمد عيسى عفانة تغير لونه, تغيرت نبرته وحتى نظراته كأن وميضا من الضوء قد اختفى ليحل الظلام قبل اوانه وبدا يتمتم مصاروي في تلك اللحظة بكلمات غير مترابطة وبصوت مرتجف "اعطني فرصة" "انا لست وحدي" "ساقدم لك السلاح وكل ما تريد", قابلته بضحكة مستهزئا منه بان كل ذلك لا يساوي شيئا مقابل دم ابي المغدور ".
لم تنتهي الحكاية هنا... فعفانة ورفاقه قاموا بتقييد مصاروي ولفه (بحرام) ليتم نقله الى جينين حيث كان من المفروض ان ينقل بسيارة فورد لكن لسوء حظهم في وقتها لم تات السيارة لظرف ما, فاضطر ابو كفاح ورفاقه حينها لاحضار سيارة من نوع مرسيدس قبل ان يداهمهم الوقت.
" القيناه داخل صندوق السيارة وركبت انا والفتاة (ع) ورفاقي الشبان مدعين امام السائق اننا نود الذهاب في نزهة الى جينين لكي لا يشك بامرنا, وبالفعل هذا ما حصل واثناء انطلاقنا, من شويكة الى جينين عبرنا من حاجز الطيبة قرب كلية خضوري واثناء انعطافنا قفز مصاروي من صندوق لسيارة بطريقة غريبة!! فبدات (ع) بالصراخ "قفز الخاروف قفز الخاروف" ".
ليتفاجا الجميع بعدها بما رأوه, حاول السائق الهرب في تلك الحظة لكن احد الشبان استطاع ايقافه تحت تهديد السلاح فنزل عمر مسرعا الى خارج السيارة وبدا باطلاق النار باتجاه العميل (يونس مصاروي) ليسقطه قتيلا برصاصتين بالراس وطلقتين بالظهر.
اخذ يستعيد انفاسه وبحرارة الثأر في قلبه اكمل ابو كفاح حكايته...
" فارق مصاروي الحياة على الفور فانا رايته بام عيني يسقط قتيلا, بعد ذلك جرى بيني وبين جنود الاحتلال المرابطين امام المعسكر اشتباك عسكري عنيف اصيبت خلاله الفتاة (ع) بجروح متوسطة, ونجحنا بعد ذلك بفضل الله بالفرار".
ويمضي عفانة في رحلته النضاليه مع الفتاة المصابة ورفاقه الشبان واستطاعوا تخطي الكثير من الصعوبات رغم الحواجز التي اقيمت على الطرق بعد تلك العملية ليتمكنوا بعدها من مواصلة مسيرهم مشيا على الاقدام بين الجبال والاراضي حاملين الفتاة المصابة على اكتافهم الى ان وصلوا مفرق دير شرف.
رغم كل هذه المعاناة الا ان عفانة كان سعيدا جدا بالثأر لوالده المغدور ولم يكن امامه سوى ان يحتفل فرحا بانجازه فأخذ يواصل مسيره على انغام كلماته الرنانة.. " لا تهتمو ياشباب طول ما سلاحي بادي وفايز وصالح وكمال ومعهم عمر عفانة بالغادر عملوا الاهوال وخطفوا شيخ الخيانة باب المعسكر هرب ونزلتلو في ادب واربع طلقات انضرب وانتهت القضية لاتهتموا يا شباب طول ما سلاحي بايدي ولما ركبت السيارة قلتلهم مات الخاروف طخيتو بنص الحارة والحكي مش متل الشوف ولحقنا المشمارغمول وتفرقنا على طول وانزلنا بالجبل انزول ولحقتنا المروحية ".
وظل ابو كفاح ورفاقه سائرن على الاقدام حتى وصلوا الى نابلس وقاموا بعدها بنقل الفتاة (ع) الى منزل احد الاصدقاء بمنطقة راس العين ليتم اسعافها, وتفرق الرفاق بعد تامين الفتاة ليذهب كل واحد في سبيله, وفي اليوم نفسه شاع نبأ اغتيال مصاروي وانقلبت لدنيا راسا على عقب ليداهم الجنود بعد ذلك قرية تل وبالتحديد منزل عفانة الذي كان شاهدا على مأسيهم ليدمر الكرة تلو الكرة.
" اعتدوا في وقتها على جميع افراد عائلتي بالضرب المبرح, واحد الضباط اسمه ايال (كان يتعقبني) قال لامي:" انتم لا تموتون الا في شهر رمضان؟!! مستندا الى استشهاد اخي وابي في شهر رمضان المبارك ".
الحكم الذي لم يسبق له مثيل
بعد الحادثة عاد عفانة من جديد الى الجبال واالسهول ليستمر في حياته, ولكن هذه المرةعاد فخورا مستمتعا بلذة الثأر لوالده وظل كعادته دائم التنقل هنا وهناك الى ان تم القاء القبض عليه في احد الايام عندما كان متوجها الى بيت فوريك خلال كمين نصب له ب 18 رمضان 1992.
" لم اعلم حتى هذا الوقت كيف وقعت في كمينهم, نقلت بعدها الى المقاطعة واستقبلني الضابط ايال الذي كان يتعقبني بفرحة لا مثيل لها وبتنهيدته قال لي:" اتعبت قلبي يا ابا كفاح ", لم اكن مكترثا له فانا كنت فقط اود ان احتفظ بسعادتي لنجاحي بقتل مصاروي فدم ابي لم يذهب سدى ورسالتي استطعت ان اوصلها الى اعدائي ".
دخل عفانة بعدها مرحلة التحقيق التي استمرت اربع شهور مع الكثير من الضغوطات واستخدام ابشع وسائل التعذيب ضده, بعد الانتهاء من التحقيق نقل ابو كفاح الى سجن الجنيد ليتم عزله فيما بعد في زنزانة انفرادية موحشة قذرة وامضى فيها احدى عشر شهرا اجتمع خلالها مع اخيه عبد الرحمن, ليصدر الحكم عليه بعد ذلك بالسجن مدة اربع مؤبدات وثمانون عاما.
رغم كل ذلك لم يضعف عفانة ولم يفقد ايمانه بالله وامله بالحياة فذلك الرجل القوي يتحدى بعزته وشموخه وكرامته وايمانه صعوبة الحياة ومعاناتها.
الصبر مفتاح الفرج
الظلم لن يدوم والفرج دائما اقرب علينا من رموش اعيننا فها هو ابو كفاح بصبره وامله وارادته فرج الله عليه, ففي تاريخ 11/1/1996 تم اطلاق سراح 130 اسير فلسطيني في اتفاقية طابا بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل كان من ضمنهم عفانة الذي قضى في المعتقل اربع سنوات من مدة محكوميته, ليعود بعدها ابو كفاح فرحا متشوقا للحرية ولاستنشاق هواء قريته النقي.
" بعد خروجي من السجن تفرغت في قوات ال17 وعملت في سجن الجنيد كضابط امن فها هو الزمن يعيد نفسه؟! فبعد ن كنت معتقلا في هذا السجن اصبح الان تحت ادارتي, وعلمت ان الفتاة(ع) قد خرجت ايضا من السجن في اتفاقية تسليم الخليل وكرمها الرئيس ياسرعرفات لتتزوج بعدها بضابط كان يعمل في السلطة, كنت سعيدا جدا لتحسن اوضاعها وتخلصها من مستنقع الرذيلة الذي وقعت به فيما مضى ".
لم اتحمل وقع الصدمة
تغير لونه وبدأت كلماته بالارتجاف وعيناه غرقتا بالدموع لا بل غابت انفاسه للحظات!! فوقع الصدمة لا زال يرافقه حتى الان, لم تكتمل الفرحة في حياة ابو كفاح ليصعق بوفاة والدته الحاجة مريم (ام فتحي) بتاريخ 14/5/1998.
" توفيت والدتي في الرابعة والخمسين من العمر بطريقة غريبة؟! حيث فارقت روحها جسدها القوي وهي واقفة متشبثة بجذع (الدالية) عندما كانت ترويها بالماء, حتى بموتها كانت صامدة وقوية فامي رحمها الله تحملت الكثير من الضغوطات والكثيرمن المعاناة والحزن, وقد اراد الله ان يجازيها خيرا".
طلقة غدر لم تكن بالحسبان
هذه المرة كانت مختلفة بعض الشيءعن كل المرات ؟!! فحب حياته وعشق ايامه وام اطفاله قد سرقت منه بلحظة صغيرة بخطا لم يكن بالحسبان فكان وقع الصدمة كبيرا ...
" توقفت الحياة بالنسبة الي ففي تاريخ 12/8/1998 فارقت زوجتي عربية الحياة في التاسعة والعشرين من عمرها برصاصة خرجت من مسدسي اثناء عبثها به, ذاك الذي كان رفيقي في النضال وشريكي في المقاومة الان اصبح قاتلا في نظري كرهته وكرهت نفسي وقٌتلت عندما قتلت زوجتي ".
اعتزل ابو كفاح الحياة بعد وفاة زوجته لمدة سنتن لم يذق فيهما طعما للنوم او للراحة او للحياة, كان حزينا جدا عندما كان يرى بناته دون امهم فالحياة هي ام بالنسبة له, رغم ذلك لم يفقد عفانة ايمانه بالله وقدرته على التحمل فوجود بناته حوله مكنه من الاستمرار ومواصلة الحياة رغم مأسيها وعذابها.
"هجرت منزلي وقريتي وانتقلت الى نابلس وسكنت في منطقة رفيديا وتزوجت في سنة 2000 لكي احافظ على بناتي من الضياع والتشرد".
فلم يكن امام ابو كفاح خيار اخر للحفاظ على بناته سوى ان يتزوج ليبدا حياته مرة اخرى من جديد, واستمرعفانة مع استمرار الحياة ليفرح بعد ذلك بمجيء مولوده الجديد علي الذي كان حلم حياته, وعاد مرة اخرى الى عمله في قوات ال17 ليبدأ مغامرة جديدة مع بداية اندلاع الانتفاضة الثانية..
حكاية الاجتياح
لم تتوقف الحكاية ولم يتوقف الالم والمعاناة وما زال الزمن يعيد نفسه في حياة عفانة, لتستيقظ مدينة نابلس يوم 7/4/2002 على هدير الطائرات ودوي القذائف وازيز الرصاص والاغلاقات ومنع التجوال.
" كنت بسيارتي الخاصة في الطريق الى قريتي تل لاتفاجا بزخات الرصاص التي كانت مصوبة باتجاهي,اصبت برصاصة في كتفي لكنني تمكنت من الهرب فتوجهت بسيارتي الى المشفى التخصصي في نابلس لاكون حينها اول مصاب في المدينة, في الوقت نفسه كان اخي ابراهيم ونعيم متواجدين في البلدة القديمة واصريت حينها ان اذهب اليهم رغم اصابتي, فتوجهت الى مشفى جامع البيك في البلدة القديمة لتستقبلني الدكتورة زهرة الواوي بفكاهة, عالجتني وضمدت جروحي وتبادلت معها الحديث وتعرفت عليها فصدقا لم اجد اروع من هذه الانسانة فهي مثال رائع في النضال والمساعدة فتعاملها مع الجرحى والمصابين كان في قمة الانسانية ".
ولا زالت مدينة نابلس تعيش فزعا وخوفا ودمارا فالاجتياح كان في اوجه, حيث تم اجتياح البلدة القديمة للقضاء عى المقاومين الذين كان متواجدين فيها ذلك الوقت, بعد خروج ابو كفاح من جامع البيك توجه ورفيقه احمد جاد الله الى بيت في شارع النصر لكي يحموا انفسهم من القصف حينها حيث قامت القوات الاسرائيلية بمحاصرة المنزل.
" اثناء تواجدنا في البيت المحاصر علمت ان اخي ابراهيم استشهد, تالمت لسماع النبا كنت اتمنى لو انني قبلته قبل رحيله فروحي رحلت معه, لا اعرف ما حصل بعدها سوا انني اذكر فقط انني كنت محاصرا تحت ركام المنزل الذي دمر بقذيفة اسرائيلية لاستيقظ بعدها واجد نفسي, معتقلا في معسكر حوارة والجروح تملؤ جسدي والدم ينزف من كل عروقي وفوق كل ذلك لم يرحموني بل قاموا بضربي ضربا مبرحا ومؤلما واستخدموا ضدي وسائل تعذيب مخيفة, نقلت بعدها الى عسقلان وبسبب تدهور وضعي الصحي رفض الطبيب ادخالي التحقيق لكن ضباط المخابرات اصروا على ادخالي الى التحقيق رغم اصابتي الخطيرة, وهناك مورست ضدي ايضا شتى وسائل التعذيب لينقلوني بعدها الى مشفى سوروكا مشلول الجسد لابدا العلاج هناك مع حكمي الاداري".
حول ابو كفاح بعد ذلك الى سجن النقب وهو مشلول الجسد فاقد الحركة ليقضي سنتين من اصعب سنوات حياته داخل المعتقل على كرسيه المتحرك, لم يكن وضعه سهلا داخل سجن النقب ففقدانه القدرة على الحركة شكلت له عائقا في بعض الاحيان, رغم شلل جسده الا ان ارادته بقت قوية ولم يفقد عفانة الامل بل استمر في حياته وكان مسؤولاعن الكثير من الامور داخل المعتقل.
سلبوني فرحة زواج ابنتي كفاح
" سجلوا هذا التاريخ على صفحات واجندة الحياة ففي 11/11/2002 وعندما كنت في معتقل النقب كان زفاف ابنتي كفاح. نهضت باكرا على غير عادتي وتوجهت الى الاسلاك في زاويتي واشعلت سيجارتي, نفخت دخانها علني اصنع منه ثوب وطرحة زفاف, سحبت سجارتي ثانية وجعلت من دخانها خيوطا انسج بها بدلة زفاف مرصعة بالياقوت والياسمين.
امنحوني نقطة زيت اضعها بسراجي..سراج نور لبناتي فها انا اعيش في سجني بين سجاني وما زلت اعاني جرحي والامي.."
قضى ابو كفاح سنتين من الاعتقال داخل النقب ليخرج بعدها من المعتقل بقرار من محكمة العدل العليا تحت تعهدات ورقابة.
" خرجت في بداية 2004 على كرسي المتحرك واول شيء قمت به بعد خروجي هو انني ذهبت لزيارة الرئيس ياسرعرفات مع زوجتي ام علي ولا زلت اذكر لليوم التحية التي ضربها لي عندما راني متوجها اليه فانا كنت احد ضباطه في قوات ال17, قدم لي في حينها مبلغا من المال لارتب اوضاعي وامن لي العلاج اللازم في مشفى المقاصد باشراف الدكتور رستم النمري الذي تبنى العلاج".
بعد هذه المعاناة الطويلة ورحلة الكفاح المليئة بالحكايات التي ليس لها نهاية, استعاد ابو كفاح صحته وقوته الجسدية مرة اخرى ليواري جسد ابيه واخيه الراحل ياسر عرفات بعد استشهاده في سنة ال2004.
من النضال الى عالم الشهرة
" استمرت حياتي بعد كل معاناتي, ففي سنة 2008 حصلت على التقاعد من قوات ال17 برتبة رائد لالتحق بعدها في مجال الصحافة والاعلام والعلاقات العامة توسعت افاقي مع اطراف كثيرة كانت غائبة عني فخبرتي في هذا المجال فادتني كثيرا لاحقق تقدما ملموسا وناجحا في مجال الاسرى وانتهاكات الاحتلال, استلمت ادارة تلفزيون اسيا لمدة اربع سنوات لانتقل بعد ذلك الى تلفزيون اضواء لمدة سنتين ".
فها هو ابو كفاح الذي لم يستسلم يوما لاي ظرف من ظروف حياته الصعبة فما زالت الالام والحكايات مستمرة في حياته, ليتمزق قلبه لوعة وحزنا على ابنته ومحبوبته كفاح فرحلة نضال هذه الاسرة امتدت حتى الى ابناء الابناء!؟ فكفاح صغيرة عفانة عاشت مع والدها الكثير من التجارب وعانت معه مررة الالم والفقدان لكل ما هو جميل في حياتهم فكفاح المناضلة الصغيرة لم تلبث الخروج من دوامة اليتم لتدخل في دواليب الحرمان من الاب الذي غاب عنها كثيرا من الايام ليكتب عليها ايضا الحرمان من زوجها الذي حكم عليه خمسة عشر سنة ليسود في عينيها ثوب زفافها الابيض الناصع كما اسودت الدنيا فكفاح بدات رحلتها الخاصة بها خلف قضبان معتقل تلموند هشارون الذي اصبح خيمتها الاخيرة بعد رحلتها الشاقة مع اليتم والحرمان.
" اعتقلت ابنتي كفاح 23 عاما بتاريخ 3/1/2009 عند حاجز حوارة جنوب نابلس, عندما حاولت طعن جندي اسرائيلي كما ادعى جيش الاحتلال, نقلت بعدها الى التحقيق ليحكم عليها مدة عامين ونصف بالاضافة الى 2000 شيكل غرامة مالية كنت حزينا جدا لما الم بفتاتي الصغيرة فقد حرمت حتى من زيارتها بحجة انني كنت معتقلا لدى قوات الاحتلال عشت الما وتمزق قلبي خوفا عليها رغم انها فتاة قوية قادرة على التحمل والصبر , كنت دائم الدعوة لها الا ان فرج الله عليها فقد تم طلاق سراحها ضمن عملية اعطاء معلومات عن شاليط ". ليستعيد عفانة أخيرا فرحته بخروج ابنته كفاح من سجون الاحتلال ليستمر بعدها مع استمرار حياته.
فها هي اسطورة الكفاح ابا واما واخا وابنة لازالت خالدة في وجهه الاسمر فقلبه ما زال يتسع لخارطة هذا الوطن مازال يتسع لاشجار الزيتون في السهل واشجار التين في الوادي لازال قلبه يتسع لبندقية النضال وما زال يتسع لجغرافية الطرق التي نسج بخطواته عليها حكاية الفدائي الصغير, فدوما للحديث بقية في حياته....