استبرق وجيهان ومرح، ثلاث قاصرات في سجن نافي تيرسا، وهو سجن مدني، يضم سجينات بتهم جنائية. مع ذلك استبرق ابنة الرابعة عشرة، بضفيرتها الجانبية، ونظرتها الخجولة المتجهة في غالب الأحيان للأرض، وجسدها الصغير، ومرح ابنة السادسة عشر، الممتلئة بالعنفوان وعريضة البسمة، تقضيان وقتهما هناك، في زنزانة مع جيهان، التي لم أرها، كونها ممنوعة من الزيارة، حسب القانون الإسرائيلي والذي يمنع الزيارة حتى مدة تتراوح بين 10 - 15 يوما (والتي خلالها يتم التحقيق مع الأسير)، لأن السجون الإسرائيلية امتلأت بالأسرى السياسيين، ولم يعد للصغيرات مكان حتى في السجون السياسية. فمنذ بداية تشرين أول/ أكتوبر تم اعتقال أكثر من 200 قاصر، ليصل العدد الإجمالي إلى 450 معتقلا، منهم 4 معتقلات قاصرات.
لا تعرف أمام من أنت، أمام صغيرتين لا تفهمان شيئا، أم أمام مناضلتين تعرفان أسرار النضال؟ 'نحن لم نطعن أحدا، نحن فقط نريد ممارسة الحياة'.
استبرق أحمد نور من قرية مادما جنوب نابلس، والتي لم تنس أن تخبرني في أول حديثها، أن عمها الأول استشهد قبل سنوات، وأن عمها الثاني أسير، أكملت الحديث بأنها رأت مستوطنا يشير إليها ويتكلم مع جندي، فقالت لي: 'يبدو أنه طلب منه أن يعتقلني'، وببساطة توجه لها الجندي، وهي في طريقها إلى البيت، وقام بإطلاق النار على يدها، عندها خافت منه ولم تتوقف بناء على لهجته الجافة والتي أراد أن تخيفها. 'توقفي' قالها، ليس لكي تتوقف استبرق، بل لكي تخاف وتستمر، فيتذرع بذلك ويطلق النار عليها، رغم أنها كانت في طريقها للبيت، عكس اتجاه مستوطنة يتسهار، الذي كان هذا الجندي يحميها.
ثم قام الجندي بالتحقيق معها ويدها تنزف، وعبث بشنطتها، وبعدها حقق معها ضابط مخابرات، داخل المستوطنة دون وجود محام، ودون وجود أحد أفراد أسرتها، كما ينص 'القانون'. فأطفال الضفة يعرفون التمييز بين القوات الخاصة والجيش وضباط المخابرات والمستعربين، وحراس المستوطنات والحراس غير الرسميين. ثم تكمل استبرق: 'أخذوني للمستشفى وبقيت هناك بضعة أيام، وحققوا معي مرة أخرى، نقلت بعدها إلى سجن الشارون لبضعة أيام، ثم إلى السجن المدني نافي تيرتسا”. وحتى اليوم 'تسكن' استبرق السجن ولم يصدر حكم محكمة الاحتلال على استبرق بعد.
أما مرح، فهي مرح باكير، من بيت حنينا قضاء القدس، ابنة لمدير مبيعات وربة بيت، تم إطلاق النار عليها بجانب مدرستها في الشيخ جراح، وأصيبت في يدها اليسرى بعشر طلقات أدت إلى عدة كسور، نقلت على أثرها إلى مستشفى هداسا عين كارم، ومكثت فيه 22 يوما لتلقي العلاج مقيدة الأيدي والأرجل في سريرها، وبعد ذلك تم نقلها إلى عسقلان، ومن ثم إلى نافي تيرتسا.
الاستغراب والفرح ظهرا على مرح، أما الاستغراب والشك، فقد بديا أكثر على محيا استبرق.
'من أنت؟ ولماذا تزوريننا؟'، مرح سألت ذلك بفرح وراحة، أما الصغيرة صاحبة الضفيرة، فقد سألت بشك.
كان سؤالا صعبا بعض الشيء. أعلمت عن اسمي، وعن أنني من الناصرة، وانتهى الموضوع، ولم أسألهما، إذا ما كانتا تعرفان أين تقع الناصرة، لا أعرف إذا ما كانت مدارس السلطة تدرس خريطة فلسطين وجغرافيتها أم تكتفي بحدود ترتيب سياسي ما.
استبرق ومرح تلخصان بدقة سياسة إسرائيل خلال التحقيقات مع القاصرات والقاصرين وغيرهم:
- التحقيق دون محام ودون حضور أحد أفراد الأهل.
- اتهامها بالكذب.
- تهديدها بحبس والدها لمدة سنتين، هذا ما حدث مع استبرق.
الضغط عليها بتعديل إفادتها، وأن تقول إنها كانت تريد طعن جندي أو مستوطن، ومقابل ذلك سيتم الإفراج عنها ولن تتعرضا للضرب. هذا ما قيل لمرح بواسطة محقق عربي اسمه بلال. لكنها، وخلاف استبرق الصغيرة، رفضت الإفادة بأي كلمة دون وجود محام، ورفضت اثنتاهما تغيير إفادتهما 'أنا أقول ما حصل، ولن أغير'. ' كيف تعرفين حقوقك يا مرح؟” أسأل، 'من البرامج التلفزيونية” تجيب.
استبرق ومرح تنتظران الآن محاكمتهما، لا تذهبان إلى المدرسة. المحتل يحاكم طفلتين لأنهما لم تسلمان به، هو بالأحرى يعاقب ولا يحاكم، ينتقم ويعاقب.
استبرق، الابنة الثالثة، ضمن عائلة مكونة من 13 فردا، سندس وعفاف ثم استبرق ومجاهد وشيث ولين وتسنيم وميساء وعبد الرحمن، لم تنس أن تعلن بابتسامة شقية أن أمها حامل، وأن تعطي معاني الأسماء الجميلة لأخوتها.
استبرق هي تحب التعليم، لكنها تحب اللعب أكثر، وتقول أنها اعتادت أن تلعب مع أخوتها 'لعبة السجن'! أي أن يقوم كل منهم بتخيل أنهم في السجن ويتكلمون عن معاناتهم المتخيلة هناك (والواقعية في جانب كبير منها)، وأنهم اعتادوا أن يعلنوا خلال لعبتهم غير الطفولية هذه، عن رغبتهم في الدخول للسجن ولو ليوم واحد 'لتجربة المعاناة'!
- “ما هذا يا استبرق؟ هل هذه لعبة؟ هل هكذا يحب الأطفال أن يلعبوا؟”.
- “لكن لعب الأطفال لا ينفصل عن واقعهم، ماذا تريديننا أن نلعب؟”.
وهكذا أسكتتني استبرق، بعد أن لم يفتني أنني بدوت 'سخيفة' في نظرها، وذهب جزءا من مجهودي خلال الزيارة، أن أحسن صورتي التي تضررت، وأن أؤكد لابنة الرابعة عشر من نابلس، أنني لست سخيفة، ومع ذلك، أن لها كامل الحق أن تفوقني حكمة.
لم تتلق استبرق ولا مرح الضرب ولا الشتائم، لا خلال التحقيق ولا داخل السجن، عكس العديد من القاصرات والقاصرين، لكن إسرائيل لديها معادلتها كمحاولة لكسر الإرادة وترويض القاصرين، إما أيام اعتقال 'قصيرة' مليئة بالضرب والإهانات، وإما أيام اعتقال طويلة وربما أشهر.
استبرق طلبت أن أعبر عن اشتياقها الكبير لولديها، وطلبت مساعدتي في ترتيب زيارة لهما، حيث يمنع أهلها من زيارتها. مرح طلبت أن يغيروا اليود على يدها تباعا وليس كل 5 أيام إذ تخشى من التلوث، ثم طلبتا معا “كابل” للتلفاز، كتبا للقراءة، شرب الشاي الساخن عندما يكون الطقس باردا، وإقناع الآخرين أن الحرية شرط للحياة.
استبرق ومرح، وعلى الأغلب جيهان، تم نقلهن لسجن الشارون، نحن على ثقة أن نفوسهن، الحرة كشعبهن، تعتزم الانتصار وتستطيع تحقيقه.