جزء من التخيلات الأنسانية عن شكل المستقبل الذي يرغب به الانسان، تتمحور بالأساس حول أحداث مثالية منتقاة من الماضي محملة بكل انفعالاتها الشعورية، حيث نكون دوما في توق لاستحضار هذه النماذج الايجابية لتجبرنا ونجبرها في علاقة تبادلية على تهميش كل سلبيات الماضي وتناسيها، ليتركب هذا النموذج النقي بناءً على سيكولوجيا الاشخاص، نفرضها على العقل ويفرضها فينا عن الوقت السابق، ونقوم بمقارنتها بالحاضر ومن ثم تدفعنا رغبة ما لاعادة صياغتها في المستقبل، اعتقادا بأنها الحالة الأفضل التي عليها أن تدوم، الأهم أن الارتباط العاطفي الحقيقي للزمن العابر لا علاقة له بأحداث ماضية بذاتها او بتفاصيلها، انما هي حالة حنين عارمة لمجمل الحالة العاطفية في حينها، هذه "النوستالجيا" أو الحنين إلى الماضي الجميل لدى الفلسطيني، تسيطر فيه حالة الانتفاضة الأولى على الحصة الأكبر. كانت ولا زالت تصلنا دوما من الجيل الأكبر سنا والذي شهد الانتفاضة، ففي كل خطاباته ومقارباته التفصيلية والعامة كانت إنتفاضة الحجارة الحاضر الأول الأكبر، والمستند الحقيقي لكل المقارنات، والرغبة بعودة انعكاساتها على كل المستويات مستقبلا.
مواليد الانتفاضة الأولى، نحن الذين لم نشهدها فعلا، -أو جيل أوسلو في رواية أخرى-، اي نفس الجيل الذي يحفر تجربته الآن في هذه الهبة المستمرة حتى اللحظة، متخم ب"نوستالجيا" آبائه، ومعبأ بقصص الانتفاضة الأولى نقلا عن الجيل الذي يكبره عمرا، مليء بكل هذه التجارب المحكية عن الزمن الجميل، بدءا من معرفته بالبنية الاقتصادية لتلك الفترة ومفهوم الاقتصاد المقاوم، حيث سمع عشرات القصص التي تعزز فكرة اقتصاد فلسطيني مستقل بعيدا عن الاسرائيلي يعتمد بالأساس على الانتاج المنزلي، كالزراعة وغيرها، أو القصة الشهيرة لبقرات بيت ساحور الثمانية عشر اللواتي دوخن الاحتلال بكل عتاده بحثا عنهن. وكان التكاتف الاجتماعي الموضوع الأكثر سيطرة على الخطاب، ليروي قصصا ملحمية كثيرة عن مساندة الناس لبعضها البعض، لنجد انعكاسها في حاضرنا هنا في حالة التكاتف الهائلة التي حظت بها عائلة الشهيد العكاري من مخيم شعفاط بعد هدم منزله قبل عدة ايام، ولتنتهي معظم "المحاضرات" بالتشديد على شكل المقاومة الجمعية والنقية والتي تحمل تتطلعات المجتمع بكافة فئاته.
شخصيا، ومن بين كل الروايات التي سمعتها عن الثوريين الأبطال خلال طفولتي، كانت قصة الشهيدة الأولى في انتفاضة الحجارة أم أسعد الكعبي والتي ارتقت على أرض مخيم بلاطة بعد ثلاثة أيام فقط على بداية المواجهات، احدى القصص التي ترددت على مسامعي عشرات المرات بحكم الصلة العائلية، لتحفر في ذاكرتي جزءا كبيرا من شكل الانتفاضة الأولى على الرغم من استشهادها قبل ولادتي بعامين، فصورها التي طغت على جدران بيوت العائلة في المخيم كانت تدفعني دوما إلى تكرار الأسئلة، والاستمرار بالاستفسار عن أدق التفاصيل حول استشهادها، وحول تلك الأحداث في حينها، مع مرور الزمن لم تعد تلك الصورة الوحيدة المعلقة على جدارن البيت، فازدادت الصور المعلقة بشكل متصاعد، صور لأفراد العائلة بين شهداء ومعتقلين خلال التسعينيات و خلال الانتفاضة الثانية، كل هذه الصور وغيرها مرتبطة بروايات محكية تناقلناها أطفالا في أزقة المخيم على لسان الأكبر سنا، ساهمت وما تزال في خلق هذا الادراك الضمني لطبيعة العلاقة مع المحتل.
لكن المبالغة في بعض الأمور عند تكوين الخطاب العاطفي الذي يبثه الجيل الذي شهد في شبابه الانتفاضة الأولى، يجعلها وكأنها حالة مستعصية عن النقد، وتحولت هذه "النوستالجيا" الى لعنة تطارد الشباب الفلسطيني أينما وجد، الروايات عن الانتفاضة الأولى والمعلبة في قالب تبشيري بامتياز، والتي تقع أحيانا عند المبالغة في طرحها، كبند اضافي في خانة الأساطير الشرقية التي تملأ مجتمعاتنا العربية، إلا أنها في المقابل أيضا تخلق عالما من كمال يرنو اليه هذا الجيل، في محاولة لخلق نموذج نضالي عالي جدا على المستوى الثوري والأخلاقي، هو سيف ذو حدين اذا، تجريد الأساطير وعقلنتها، والاقتداء بها في نفس الوقت، اي ان يصنع الشباب الفلسطيني هذا التوازن المنطقي في حضرة كل معطيات الواقع، هو القاعدة الصلبة للانطلاق نحو مستقبل أفضل، ومشروع تحرري حقيقي.
نحن هنا لسنا بصدد المقارنة الاحصائية بين هذه المرحلة وتلك، ولسنا بصدد تبيان عيوب هذه او تلك، لا، فبيت القصيد هنا كيف ان كل جيل يستسقي حبه لفلسطين بناءً على الحالة العاطفية المنقولة من الجيل الذي يسبقه، فمثلا صورة اللاجئ المكسور الذي تهجر وترك أرضه مرغما مهزوما، قد تحولت تحت ظروف معينة الى صورة الفدائي الفلسطيني الملثم في السبعينات والثمانينات بسبب تلك الحالات العاطفية المصورة عن فلسطين والماضي الجميل التي طالما كانت في خطاب المهجرين الأكبر سنا، وفي وقتنا الحالي يتكرر ذات المنطق، فكل هذه "التعبئة النوستالجية" –ان صح التعبير- والتي بنت في عقولنا حصنا منيعا لصورة فلسطين، -على رغم من "أسطرتها"-، ولكنها استطاعت الانتصار على كل الساعات والطاقات المهدورة للورشات الشبابية التي نظمتها المؤسسات الأهلية ومولها الغرب في محاولة لتدجين القطاع الشبابي في المجتمع الفلسطيني، او حتى تحييده، بل على العكس دفعت بهم مجددا للرجوع إلى الخط الثوري الحقيقي دفاعا عن فلسطين الحلم، وكيف أن صورة واحدة عن بلدته المهجرة داخل عقل الشاب الفلسطيني قادرة على تمزيق كل زيف الورشات واللقاءات والندوات على الرغم من "لذة" البسكويت و"البيتيفور" في قاعاتها.
وكأستنتاج متأخر آخر، بطبيعة الحال، ككل استنتاجاتي التي تأتي مهرولة في الوقت الضائع، انتقاد التجربة عميقا على كل مستوياتها، ووضع التجربة بكامل حقيقتها دون عواطف تحت مقصلة المحكمة التاريخية، هو حجر أساس لبناء تجربة ثورية حقيقية أنضج، وفي المقابل ربما التمسك بالرومانسيات التي أفرزتها "نوستالجيا" آبائنا بكل صورها، أشكالها، وحالاتها، تحافظ على صورة فلسطين بكل نقائها، لتكون نبراسا مضيئا في طريقنا نحو مواجهة الات تشويه الذاكرة الفاشية في حربنا معها، حرب الذاكرة، ذاكرة فلسطين الحقيقية، كل فلسطين.