يعتبر مفهوم "الازدواجية" من أكثر المفاهيم المعروفة لنا، ولعلها من أكثر الكلمات التي ألفنا سماعها كشعب فلسطيني. نحن شعب لا زلنا ومنذ نكبة عام 1948 نعيش ونناضل من أجل استرداد حقوقنا العادلة والمشروعة كما عبرت عنها العديد من قرارات المنظمات والهيئات الدولية كالأمم المتحدة، والتي أصبحت معروفة ومتداولة عالمياً تحت إسم الشرعية الدولية. وقوة مفهوم "الازدواجية" في واقعنا نابعة على شكل تساؤل أو إستغراب نردده دائماً حين نشكو كفلسطينيين من عدم تحويل كل قرارات الشرعية الدولية إلى واقع عملي على الأرض يسندنا في استعادة حقوقنا، في حين نرى من حولنا، وفي عالمنا الكثير الكثير من هذه القرارات وقد تحول إلى واقع على الأرض بفضل القوة التي فرضت تطبيقه، وتمكنت من خلاله الكثير من الشعوب التحرر من الظلم والتعسف والاضطهاد والتمييز. وهذا ملخص ما يدفعنا دائماً إلى التساؤل بالقول: هل هناك ازدواجية في المعايير؟ أو في تطبيق قرارات الشرعية الدولية؟
ملخص القول في هذا السياق أنه بين ثنايا أحرف هذه الكلمة، وبسببها، تكمن الكثير من معاناتنا كشعب، ويتواصل نزيف الدم الذي يحصد أرواح أبنائنا. ولذلك فإنني أعتقد أننا كشعب علينا أن نكون أكثر دقة وحرصاً على الوقوف في وجه مفهوم الازدواجية وتطبيقاتها في كل تفاصيل وعموميات حياتنا. كمواطن فلسطيني تحضرني هذه الأفكار منذ ما يزيد على الشهرين، وأنا أتتبع مسار خطابنا وتوجهاته في مواجهة آلة الاحتلال القاتلة. دائماً، وأمام كل تفاصيل الحدث، أجد السؤال الذي لا يفارقني أبداً: هل لدينا خطاب مزدوج؟
لتبسيط الأمور فإنني كمواطن أجد نفسي يومياً أمام صورتين، الصورة الأولى تقول أن قوات الاحتلال أطلقت النار على أحد الأطفال خلال ذهابه إلى عمله أو مدرسته أو أي مكان آخر وتركته ينزف دون أن تقدم له العلاج، أو حتى دون أن تسمح لأي أحد بتقديم العلاج اللازم له. مقابل صورة أخرى عن نفس الطفل أو الرجل أو المرأة تقول أنه قام بتنفيذ عملية ضد قوات الاحتلال أو المستوطنين. هاتان الصورتان تتكونان لدى الكثير من المواطنين ليس اعتماداً على مصدر واحد للخطاب، وإنما اعتماداً على سيل كبير من المعلومات المرئية والمسموعة التي تتدفق مع كل حدث جديد. ومصادرها عديدة ومتنوعة كالمواد المرئية والسموعة والمكتوبة، في الأخبار والبيانات وإعلانات النعي للشهداء، وفي الأحاديث والخطب والحوارات السياسية والمسيرات والمظاهرات وغيرها. أحيانا قد نجد أنفسنا أمام تضارب المعلومات بين أكثر من مصدر حول نفس الحدث، وحتى تضارب المعلومة من نفس المصدر في أوقات مختلفة. لن أدخل هنا في التفاصيل، لأنها كثيرة جداً، لكن جوهر الموضوع في اعتقادي يكمن في سؤال واحد هو: ما هي انعكاسات وتأثيرات هذا التضارب على توجهات مجتمعنا بكل فئاته وشرائحه؟ رغم أنني أتمنى أن أكون مخطئاً في تلخيصي أعلاه.
في اعتقادي أن الإجابة تكمن في القول أن لغة الخطاب المزدوج سيكون لها انعكاسات سلبية "مزدوجة" أيضا. فهي من ناحية تترك آثاراً سلبية على الصعيد الداخلي الفلسطيني في تشتيت الرؤية والأفكار والتوجهات، وهو سينعكس بدوره على الخطط والبرامج والسياسات للقوى والمؤسسات والهيئات المجتمعية المختلفة، وبالتالي تشتت الفعل والعمل على أرض الواقع، وسرعان ما يقود الى التشاؤم وربما الإحباط. ومن الناحية الثانية سيضرب الثقة والمصداقية لروايتنا الفلسطينية ويفسح المجال أمام الرواية المعادية لشعبنا وحقوقه. وبدلاً من أن تكون روايتنا مصدر قوة لنا، وترفع قدرتنا وصوتنا وزيادة تأثيرنا في المطالبة بحقوقنا العادلة والمشروعة، تتحول إلى واحدة من أسباب تشتيت قوة الحق التي نمتلكها. دماء الشهداء الذين يسقطون يومياً، أطفالاً ونساءاً ورجالاً على يد الاحتلال تستحق منا التفكير مرة تلو المرة في شكل ومضمون خطابنا بصورة تقربنا أكثر من تحقيقما نصبو إليه في نضالنا العادل والمشروع.
نبيل دويكات
رام الله- 22كانون أول 2015