كنت وما زلت عندما يضيق بي الحال لأي سبب من الأسباب أتمشى في طرقات البلدة القديمة بنابلس، حيث يشعر المرء بعبق التاريخ الجميل المتمثل بالأبنية والأزقة الأثرية، التي سكنها هو أو أحد أقربائه أو أحبابه أو أصدقائه المقربين، من كان منهم حياً ومن كان منهم ميتاً، ويهبط الفرد من عليائه عندما يشاهد سكانها الحاليين من العامة والمساكين، حيث يلمس البساطة المقترنة بالمحبة والطيبة، كما ويستمتع المتجول بمشاهدة وسماع الباعة والمشترين، ويتوقف حيناً ليسأل ويستفسر وحيناً آخر ليشتري، وغالباً ما يلتقي على غير موعد بأصدقاء له وأحباب قدامى، شغلتهم الدنيا ومسؤولياتهم عن التواصل مع بعضهم البعض، وتحضر ذكريات الماضي الجميلة من على مقاعد الدراسة أو من اللعب في الأزقة والحارات، فيخرج المرء بشكل لا إرادي من حالة الضيق التي يمر بها، متنبهاً على صوت هاتفه النقال ينقل له استفسار أهل بيته عن سبب تأخره في العودة للمنزل، وليلحظ حينها فقط الساعات الطويلة التي أمضاها بتجواله دون أن يشعر بها.
تغير الحال وتبدل منذ بُرهة، فلم نعد نلمس السكينة التي عهدناها، ولم نعد نجد راحة البال المنشودة، فالهم والكآبة تلفح وجوه الجميع، والأزقة والطرقات مستباحة، والنفوس مستنفرة، "والكل بيقول يلا نفسي، واللي مش عاجبو، الله يجعلو لا يعجبه"، إذن هي اليوم، وعكس الأمس، حالةٌ عامة وليس فردية من الضيق والضجر، فمن يُهون على من والحال كذلك؟؟؟
تتعالى النداءات والأصوات لتدخل الجهات الرسمية مطالبةً بضرورة فرض النظام والقانون، وإنبرت الأقلام وشُحذت الأفكار وكثرت الإنتقادات، وأنا وإذ لا اُقلل من أهمية دور المؤسسة الرسمية في هذا السياق، فإنني أرى بأن يتلازم معه المبادرة الفردية من قبل الجميع بدءاً بأولياء الأمور ومروراً بالمثقفين والمربين والعقلاء وغيرهم في تصويب المسار التربوي والأخلاقي لمجتمعنا المحلي ولإجيالنا الشابة التي تُنشّأ اليوم على فكر غوار الطوشة الذي تحمله عبارته المشهورة "حارة كل مين إيدو إلو" أو فكر حاكم فرنسا لويس الرابع عشر المتمثل في عبارة "أنا ومن بعدي الطوفان".
لا بد لنا من العودة للتأكيد على أن بهجة العطاء تفوق بهجة الأخذ، فبينما الجميع يشترك بالتلذذ بالأخذ، ينفرد بالتمتع بلذة العطاء عظماء النفوس وأصحاب الأخلاق السامية الرفيعة، وقد عُلمنا في الصغر كيف أرشد مدرسٌ أحد تلاميذته إلى أن السعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ، وذلك في قصة المزارع البائس الفقير الذي ركن حذائه القديم جانباً عندما كان يعمل في حقله، فبينما أراد التلميذ أن يمزح مع المزارع بأخذ حذاءه وإخفاؤه، ليضحك على ردة فعله من حيرة وحسرة، حين ينتهى من عمله ولا يجده، أشار عليه المدرس بدل ذلك وضع قطعٍ من النقود داخل كل فردة حذاء لرؤية أثر السعادة والفرحة على هذا المسكين بدلاً من التلذذ برؤية أثر الحيرة والحسرة عليه، ولما لا نرغب نحن أيضاً برؤية الفرحة والبهجة على وجوه الآخرين بدلاً من التلذذ بالإستيلاء على حقوقهم أو ممتلكاتهم، والتشفي أحياناً بمعاناتهم أو حتى آلامهم، ولم لا يتم التأكيد والتذكير بأن العطاء أنواع، منها التسامح والعفو عند المقدرة، وإلتماس العذر وصرف سوء الظن بالآخرين، وأن تمنح أصدقاءك وأقرباءك وناسك ووطنك وشركاء فيه أكثر مما يتوقعونه منك.
وأختم بقوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" صدق الله العظيم.