هو السؤال البديهي الذي يستطيع جميع من يبدأ بقراءة المقالة الإجابة عليه بكل بساطة وسلاسة، وربما يكتفي الكثيرون بإبتسامة تفيد بأنه لا حاجة للإجابة على هكذا سؤال. ويبحر الكثيرون في تفسير معنى النُخب ووعيهاوبصيرتها وطليعيتها وتقدمها وقدرتها على قيادة الصفوف والحركات والتحركات، مقابل بساطة وعفوية الجماهير وضعف تنظيمها ووحدتها ومحدودية قدرتها على الإستمرار والمثابرة دون قيادة وتوجيه. ويستحضرون أمثلة وشواهد كثيرة ومتنوعة من شتى أنحاء العالم، وتجارب وخبرات الشعوب والحركات الثورية، بل تجارب وخبرات الشعب الفلسطيني نفسه عبر مراحل تاريخية مختلفة.
مرت هذه الفكرة في ذهني على مدى الأسابيع الماضية خلال متابعتي وملاحظتي للمبادرات العديدة التي شهدناها جميعا في تنظيم حملات تبرعات جماهيرية لإعادة بناء بيوت الشهداء التي هدمها الإحتلال خلال الأشهر الماضية. على الأقل لدينا حتى الآن ثلاث مبادرات واضحة ومعروفة أُطلقت بدايتها من مدينة القدس تبعتها أخرى من نابلس فيما الثالثة بدأت للتو من رام الله والبيره. هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن هذه المبادرات وغيرها من المبادرات الجماهيرية، لكن أنا سأكتفي هنا بالتركيز، وربما التساؤل الذي تثيره في بحث علاقة النُخب بالجماهير. حيث هناك مؤشرات واضحة على أن وراء هذه المبادرات الثلاث جهد شخصي وفردي لأفراد ومجموعات مختلفة. وربما هذا ما قد يفسر التساؤل الماثل أمامنا عن عدم تعميم مثل هذه المبادرات، حتى الآن على الأقل، لتشمل جميع البيوت التي هدمها الإحتلال. وهو سؤال لا زال برسم الإجابة وموجه الى النخب بشكل عام.
وحتى تكون النقاط على الحروف فإنني أقصد بالنخب الحزبية والمؤسساتية، الرسمية منها وغير الرسمية وهي تشمل نطاق واسع من القوى والأحزاب على إختلاف توجهاتها، والنقابات والهيئات والمؤسسات المحلية والتمثيلية إضافة الى المؤسسات الرسمية في مختلف المجالات والقطاعات، ويشمل كذلك رأس المال الوطني، على الأقل في نطاق ما أصبح متعارفاً عليه "بالمسئولية الإجتماعية".صحيح أن الكثير من العناوين التي ذكرتها أعلاه "لم تقصّر" في تبرعاتها في الصناديق التي أقيمت لهذا الغرض، وأثبتت ذلك عبر المواد الإعلامية المختلفة التي نشرتها بهذا الخصوص. غير أن ما أقصده يختلف عن مجرد المساهمة المالية هنا وهناك، رغم أهميتها. وما أقصده يعني في رؤيا واضحة "لإلتقاط" مثل هذه المبادرات، وإستخلاص الدروس منها وتعميمها كفعل جماهيري منظم ومستمر يعكس تطلعات الجماهير ورغبتها في الخلاص من نير الإحتلال وسياساته وتبعاته. وفي التاريخ القريب عبرة لمن أراد.
لم تمض أيام قليلة على إنطلاق التظاهرات الجماهيرية مطلع كانون الأول عام 1987 التي أعقبت حادثة دهس العمال في مخيم جباليا حتى شهدنا مسارعة من القوى الوطنية الى إصدار بيان بإسم "القيادة الموحدة" التي إستطاعت لاحقاً توحيد وتنظيم الفعل الجماهيري الى ما سُجّل في تاريخ شعبنا الفلسطيني تحت إسم "الإنتفاضة". أما ما نشهده اليوم فإنه لا زال يدفع الى التساؤل عن مغزى ومعنى العلاقة الحقيقية بين "النُخب" والجماهير، هناك الكثير من العمل والفعل الجماهيري، سواء في حملات ومبادرات جمع التبرعات أو حملة إستعادة جثامين الشهداء كأمثلة حية أو غيرها من الفعل الجماهيري، ولا نجد حتى الآن فعل حقيقي يرتفع الى مستوى هذا العمل، ويؤطره ويحرك فيه آلية التنظيم والإستمرارية. حتى المقولة الشعبية التي تقول "النصر له الكثير من الآباء، بينما الهزيمة لا أب لها" لا تجد معنى لها في حالتنا، حتى الإنتصارات هنا لا تجد أباً لها.
نبيل دويكات