سيضاف لقاء الدوحة المزمع بين طرفي الإنقسام الفلسطيني لغيره من اللقاءات السابقة، وسيحمل رقما جديدا في أرشيف الإنقسام الفلسطيني القاسي، يلي أرقام ملفات الحوار الوطني المركونة على رفوف النسيان في القاهرة، ومكة، والشاطىء، واسطنبول، وسيعقبه جولات لاحقة، ستحمل جعجعة إعلامية كبرى، وتخلو من أي طحن، وقد تتغير وجوه المتحاورين وأسمائهم، وعناوين الفنادق التي تستضيف جولات الحوار وأرقام الغرف، إلا أن ماَلات هذه الجولة لن تقل عن سابقاتها إحباطا للمواطنين، ونوءا عن الهدف المعلن منها، وهو إنهاء الإنقسام، وعودة الحياة السياسية في الوطن إلى مسارها الطبيعي،
إذ أن تجارب العقد الماضي من الحوارات الثنائية أثبتت فشلا ذريعا، مما يجعل التعويل عليها مجددا عبثا سياسيا، ومضيعة للوقت، ففي ظل وجود جهات مؤثرة في كلا الطرفين، تتغذى على استدامة الإنقسام، وتنتعش مصالحها الذاتية باستمرار نزف الوطن، وفي ظل غياب اَليات تنفيذ واضحة ومحددة لما يتم التوقيع عليه، وجداول زمنية دقيقة ومحددة للتطبيق، يبقى تحقيق إنهاء الانقسام حلما رومانسيا يداعب وجدان الطيبين من المواطنين، وطالما استمر طرفي الإنقسام باحتكار أدوات وتوقيت ومكان مناقشته، وفق أجندتهما، دون الالتفات إلى رأي أغلبية المواطنين، وإشراكهم في الحوار الجاري لوأد الإنقسام، فلن يحصل خرق حقيقي في الأفق، كما أن التجاهل المتعمد لسبر أغوار مختلف القضايا الخلافية، ووضع حلول موضوعية لها، وتعمد التعويل على النوايا الطيبة للطرف الاَخر، وترك العديد من بنود الإتفاق فضفاضة، وقابلة للتأويل والإجتهاد، أسهم في فشل كل الجهود السابقة لطي صفحة الإنقسام، فجولات الحوار الوطني أضحت لا تتعدى كونها مظهرا اجتماعيا يستخدم لتجميل مظهر الفرقاء أمام الجماهير، أو قفازات يشرعها كل طرف في مواجهة الاَخر للدفاع عن نفسه أمام الخصم، مما جعلنا تائهين في صحراء الفرقة تصفع بنا رياح الذل والهوان، فلو توفرت النوايا الحقيقية لإنهاء الإنقسام، لكانت وثيقة الأسرى التي وضعها خيرة أبناء هذا الوطن، بوصلة، ومشكاة كافية لتبديد الظلام.
لم تعد الوحدة وتصويب المسار ترفا فكريا، يجري تداوله في الصالونات السياسية للنخب، بل هو واجب مقدس، لا مجال للتلكؤ في تحقيقه دون تأخير، إذ لم يعد من الممكن المناورة في منح الناس حقوقهم الأساسية، وفي مقدمتها المشاركة بإرادتهم الحرة باختيار ممثليهم في مختلف المؤسسات، ابتداءا من الرئاسة حتى مجالس اتحاد الطلبة في جامعات الضفة والقطاع، مرورا بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تحتاج إلى إعادة تفعيل لكل مؤسساتها، كونها المظلة القانونية، والسياسية، والمعنوية لشعبنا في الوطن والشتات، فها نحن اليوم نقف كما لم نكن في أي وقت مضى، مرددين بأعلى صوت " يا وحدنا "، في ظل انشغال العالم بقضاياه الداخلية، ابتداءا من اوروبا المنشغلة بالتعامل مع التهديدات الأمنية، والأزمات الإقتصادية، وتدفق اللاجئين عبر حدودها، والولايات المتحدة الأمريكية التي دخلت أجواء السباق إلى البيت الأبيض، في ظل سعي الديمقراطيين للفوز بفترة رئاسية ثالثة، سنكون نحن عربا وفلسطينيين قرابينها، كوننا الطرف الأضعف في المعادلة السياسية القائمة على المصالح لا الحقوق والقيم، بالإضافة إلى السياسة الخارجية للإدارة الامريكية التي حزمت حقائبها باتجاه سياسة "الارتكاز الاسيوي " في إشارة واضحة للأولويات المستقبلية للإدارة الامريكية القادمة، خاصة إن كانت "هيلاري كلينتون" على رأسها، بعد ضمان استمرار الأنظمة العربية بشراء أحدث أسلحة الدمار والقتل من الغرب، لإدارة معاركها مع الأشقاء، وبعد تأمين نفط العرب بأزهد الأسعار، بينما تتفجر الصراعات في وطن العرب من المحيط إلى الخليج، الذي يمر بمراحل مخاض عسير " في سوريا، وليبيا، واليمن، ومصر، ولبنان، ودول شمال افريقيا والخليج، لا نعلم بعد ماذا سيكون نتاجها، إلا أن المؤكد حتى اللحظة، هو التأثير السلبي لتلك التحديات على مكانة القضية الفلسطينية، التي تراجعت من قضية العرب والمسلمين الأولى، إلى إحدى القضايا التي يتقدم عليها التهديدات الداخلية لتلك الدول، في ظل استغلال اسرائيل لكل تلك الأحداث لتنفيذ مشاريعها الإقصائية، واستغلال صراعاتنا البينية، وانقسامنا، لاقتلاع مزيد من الأرض، وتهويد القدس، واختراق علاقتنا بدول صديقة، شكلت تاريخيا حليفا لشعبنا، مثل الهند وقبرص، واليونان، وهو الأمر الذي يحتم علينا أن نعي جيدا حجم التهديدات التي تحيق بوجودنا في الوطن، سواء كنا من انصار هذا الفريق أو ذاك.
لن يحدث تقدم حقيقي في موضوع المصالحة الوطنية، وانهاء الإنقسام الدامي، ما لم يمارس تأثير جدي وحقيقي من القوى الحية والمؤثرة في المجتمع، وما لم يأخذ ضحايا الإنقسام الحقيقيين دورهم الطبيعي في إنهاءه، والمقصود تلك الأغلبية الصامتة من الشباب، والمثقفين، والأكاديميين، والنقابات المختلفة، ومؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، وإلإعلامية، ودور العبادة، وموجهي الرأي العام، وممثلي مختلف الفصائل، من خلال الضغط الحقيقي للتكفير عن خطيئة تقسيم الوطن، وتحديد الطرف المعطل بكل جرأة ووضوح، إذ أن تبني الأغلبية لسياسة الانكفاء السلبي، والترقب لما ستؤول له نتائج الحوارات الثنائية دون اكتراث، هو تواطؤ ضد الوطن، واعتراف ضمني أنه ملك لفريقين، بينما جميع سكانه الآخرين هم في احكام الرعايا والقُصّر، ليس لهم حق النقد، والتغيير، بل هو انفكاك عن قيمة المواطنة، التي تقوم على مبدأ المسؤولية، والانتماء الصادق، الذي يتخطى حدود القلب إلى اللسان والفعل، لأن الوطن لا يبنى بأضعف الإيمان، وهذا يتطلب بان تكون تلك القوى جزءا من الحوار والقرار، لا شاهدا في بروتوكولات التوقيع، وأخذ الصور التذكارية، فالتاريخ يسجل، وذاكرة الأجيال لا تعرف النسيان، والسياسيون قادرين على تحقيق ما يعرف بالسلام السلبي " negative peace "، وهو الذي قد يؤجل اندلاع عنف، أو حرب بين دولتين، اوفريقين متخاصمين، وهو أقصى ما يمكن تحقيقه نتاج تلك اللقاءات الثنائية، من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية، بينما الانتصار الحقيقي للوطن، وتحقيق المصالحة الوطنية، بين أبناء الوطن الواحد، والمصير الواحد، والتحديات والمستقبل المشتركان، يحتاج إلى ما هو أعمق من لقاءات السياسيين التي لا تلتفت عادة للتفاصيل، وتفضل التركيز على المخرجات السياسية، وتعظيم المكاسب الحزبية.
نحن بحاجة حقيقية إلى إعادة ترميم بيتنا الداخلي، ونسج علاقات قوامها تقبل الرأي الاَخر، وتسليح جبهتنا الداخلية بالوعي، والمحبة، والوحدة، ورحابة الصدر، وتحديد مسار واحد ومتفق عليه لسفينتنا، التي تتلاطمها رياح الفرقة والإنقسام، ضمن برنامج سياسي يرتكز على الثوابت الوطنية، وحق شعبنا بالمقاومة، وهو الأمر الذي لا يقبل التلكؤ أو التأخير، وبدونه سيبقى جرح الوطن نازفا، ونكون شركاء في قتل الوطن.
على الرغم من صعوبة الدروب، وقساوة الواقع، إلا أن هذا الجيل الفلسطيني الذي ينتفض في كل ساحات الوطن، ويعلن رفضه للاحتلال والانقسام، وينحاز لفلسطين بدمه، ووعيه، ومقاومته المثمرة، ينير في النفس قناديل أمل، ويمنحنا ثقة بأن شعبنا سيتخطى عقبة الانقسام، ويدفنها عميقا خارج الوطن، غير مأسوف عليها .