سجن النقب الصحراوي:
تراه يمشي في الساحة واجماً مذهولاً لا يكاد يرى أمامه أو يشعر ما حوله، وحاله هذه لا تُثير الغضب في نفوس من يحيط به فهذه العلامات محمودة في هذا الموضع على الرغم من كونها مُقلقة فيمن سواه ولا غرابة أن تظهر هذا العلامات عليه ،فهو ينتظر يومه الموعود ،يومه الذي طال انتظاره ، يومه الذي لا يساويه يوماً في هذه الدنيا ، يومه الذي يعود فيه طليقا حرا ً كعصفور ٍ يخرج من قفصه الضيق إلى العالم الفسيح حوله , إنه اليوم الذي يخرج فيه السجين من سجنه.
لكل بداية نهاية، ولكن البدايات ليست متشابهة كما هو حال النهايات ولا شك أن البداية هنا مختلفة فهي تبدأ بالاعتقال من البيت أو عن أحد الحواجز أو غيره ومن ثم الاقتياد إلى السجن .
تبدأ رحلة طويلة عجيبة من القهر والذل والعذاب ، والأسير الذي يتم اعتقاله يبدأ من اللحظة الأولى في التفكير التي يعود فيها حرا ً وتصبح حريته همه وحلمه وأمله ، ولو تخيلنا أن إنسانا حُبس داخل قصر ٍ منيف ٍ تُحيطه الحدائق ذات الظل الوارف ولكنه منع من الخروج منه لتاقت نفسه للخروج من هذا المكان مُفضلا ً العيش خارج القصر لعثرات الدنيا ومشاكلها ،فكيف بالأسير الفلسطيني؟ الذي يعاني ما يعاني ويقاسي ما يقاسي من الآلام طيلة مدة حبسه طالت أم قصرت , وعلى رأس هذه الآلام ألم الفراق والبعد عن الأهل والوطن , وما إن يقترب اليوم الموعود حتى تبلغ القلوب الحناجر وتضيق الصدور ، فالكل ينتظر الأسير ورفاقه وأهله ،وما أن يُبلغ الأسير أنه سيفرج عنه في اليوم التالي حتى تعلو البهجة والسرور مُحياه الذي يشع نورا ً ويبدأ زملاؤه الأسرى بتهنئته ،وفي اليوم التالي يستحم الأسير ويرتدي أجمل ما عنده من ثياب والتي كان قد خبأها ككنز ٍ ثمين ٍ لمثل هذا اليوم ويتعطر بالعطر إن وجد وكأنه يُزف كعريس ٍ إلى عروسه خلال ساعات ،ثم يأتي السجان لاصطحابه إلى خارج السجن فيبدأ بتوديع رفاقه الأسرى الذين يتمنون له التوفيق والسعادة رابطين اياه على هذه اللحظة العزيزة على قلوبهم جميعا ً , وتذرف الدموع من عيني الأسير المغادر إلى الحرية وقد تحير الأسرى في ماهية هذه الدموع ، فهل هي دموع الفرح للقاء بالأهل ؟ أم هي دموع الحزن على فراق الأخوة والأصدقاء وراء القضبان .
ما إن يتجاوز الشِباك و القضبان والكل يرتقبه حتى يخرَ لله ساجدا ً شاكرا ً له على نعمة الحرية وداعيا ً لمن هم خلفه بالفرج القريب ،إنها سجدة الوداع الذي يؤديها كل أسير ٍ محرر .