تقرير: هالة أبوعيشة
قرب باب الساحة في البلدة القديمة لمدينة نابلس، تحملك قدماك إلى زقاق تتراقص فيه النغمات الموسيقيّة بخفّة، لتسير خلفها مذهولًا بكامل حواسّك حتى تصل إلى محل علي حسنين "55عام". تراه يتنقل بانسياب بين الإستمتاع في العزف على آلاته الفريدة، ونحت الأخشاب بأشكالٍ مختلفة; ليصنع أنواع عديدة من العيدان يختلف صوتها بحسب نوع الخشب المستخدم في صناعتها.
التشابه بالإسم والموهبة و"زرياب"؟
"لقب بزرياب لعذوبة صوته ولون بشرته الداكن. وهو اسم لطائر أسود عذب الصوت يعرف بالشحرور"، يقول حسنين. يعزي علي اسم محله إلى أبو الحسن علي بن نافع، الموسيقي والمطرب الذي اشتهر في بلاد الرافدين لعذوبة صوته في العصر العباسي. حيث كانت له إسهامات بارزة في الموسيقى العربية والشرقية.
بدأت الموهبة لدى حسنين في سن الثالثة عشر عام على يد والده، ملهمه الأوّل في الموسيقى. إصرار حسنين وحبّه للعود لم يوقفاه عن الحلم الذي أخذ بالإتساع حتى أصبح حقيقة، فكان أصغر من عزف في حفلات موسيقية في نابلس.
بدأت حياة علي المهنيّة بعيدة عن الشغف الذي كبُر معه، درس التمريض واستمرَّ في ذلك المجال لتسع سنوات. لكنّ شغفه وولعه بالموسيقى حال دون إكمال مسيرته الطبيّة ليعود أدراج طفولته من جديد.
1991كان عام التغيير لحياة علي، يعدّل جلسته ويتناول سيجارته، يشعلها وينفث دخانها الذي يهيّئ لناظرها كأنهن فتيات يرقصن فيوضح قائلًا:" تبلور ذلك حينما تعطّل عودي ولم أجد أحدًا ليصلحه، فتراءى لي أن أفعل ذلك بنفسي فنجحت!وأصبحت صيانة العود وتعليم العزف المهنة الأولى ومصدر الدخل الأساسي لي بعد ذلك. ثم بدأت أفكر، لمَ لا أصنعه كذلك؟".
اتسع شغفه وأصبح حلمه حقيقة
لم يتوقف عند صيانة وتعليم العود، بل أخذ خطوةً جدية بالبدء في صناعة العود بنفسه. فانتقل من غرفة بيته إلى محل يعود إلى خاله في البلدة القديمة لمدينة نابلس. وكانت أولى خطواته سفره إلى العراق عام 1993; فالعود العراقي كان مشهورٌ آنذاك، ثمّ إلى الشام ومصر. وبدأ بتجميع ما يسمع عن هيكلية آلة العود بأخذ قياسات لأي ألة تقع بين يديه.
فوضى زرياب ومساحته الصغيرة والأعواد المتناثرة في كل زواياه الضيّقة تثير الرغبة بك لأن تكون أحد محترفي العزف على هذه الآلة، "لم يكن بمقدوري تعلم صناعة العود بشكل يسير; لأنه من الصعب أن يعطيك أحدهم سر مهنته والتكلفة العالية في ذلك الوقت"، يضيف حسنين.
الهواء والماء لهما علاقة
"النوتة الموسيقية تختلف على حسب الخشب المصنوع منه العود" يوضح حسنين. فلكيّ تحصل على صوت عذب من أوتار العود، يتوجب عليك المعرفة الجيّدة بأنواع الأخشاب. وهذا يعد أصعب مرحلة في صناعة العود.
إذ يختلف الخشب تبعًا لمناطق وجوده، فالأخشاب الموجودة في الوادي تختلف عن التي في سفح الجبل. لكل منهما صوتٌ مختلف وأفضلها الموجودة في الجبال; كونها تحصل على القدر الكافي من الماء والهواء. ومن أنواعه أشجار السرو والأرز، ويكثر وجودها في أوروبا.
أما عن عملية قص الخشب يعترف حسنين أنه لا يستطيع فعل ذلك. "أحتاج إلى نجاريين مختصيين، لهذا ألجأ إلى شراء الخشب مقطّعًا على حسب القياسات التي أريدها"، يكمل أبو وسام.
ويتابع علي مراحل صناعة العود بشغفٍ كأنه يسرد تفاصيل ولادة أحد أطفاله. "ينقع الخشب بالمياه، ثمّ يترك حتّى يجف. وبعدها يوضع على آلة لتحديد سمك الخشب المصنّع. لتبدأ مرحلة تجميع أجزاء العود ومراعاة تناسق الألوان فيه، واستكمال صناعته بطريقة فنيّة تجذب الناظر إليها ولا عود يشبه الآخر في تكوينه وشكله".
"الحياة بدون موسيقى ما فيها روح":
يرى حسنين في الموسيقى الملاذ الأول والأخير له، ولا حياة بدونها. إذ يعتبرها غذاء للروح بالدرجة الأولى وأنه استخدمها في العلاج أثناء عمله في التمريض سابقًا. في حديثٍ واضح يكمل حسنين "بحثت ولا زلت ببحث، الموسيقى مش حرام"، مؤكدًا تعرضه لمضايقات وانتقادات عندما عرف بأنه صانعٌ للعود وعازفٌ له. ويتابع بلهجة واثقة أن الموسيقى لا تدخل ضمن ما حرّم الله وإنمّا يعتمد على كيفية استخدامها وأين.
ويردف قائلًا:"إقبال الطلاب في تعلم العزف على آلة العود في ازدياد. وهناك مواهب تستحق الإهتمام بها".
ويضيف حسنين وعلامات السعادة جليّة في ملامحه "أما فيما يخص إقبال الأجانب على زرياب، فإن المحل لا يخلو من الزيارات المستمرة للأجانب، فدائمًا ما يكون زرياب وجهتهم الأولى حسبما ترسلهم المؤسسات المسؤولة عنهم. وكثيرًا منهم من يطلب التعلم على العزف; لإعجابهم الشديد بصوت العود الشرقيّ الأصيل". ويتابع" لدّي الآن طالبتان أجنبيتان أدرّبهمها على العزف".
لساعةٍ متأخرة، حتّى حين ينتهي زوار البلدة القديمة، ويخبوا أهلها إلى مساكنهم نائمين هادئين، في زقاق حبس الدم تتواصل الحياة بألحان علي. وتعود ذكريات فيروز مع عازف عودها علي اللبناني. ويستمر زوار حسنين بمناداته"ضلك عيد يا علي". ربما لعلّها مصادفة إلهيّة أن يشدوا بأعتى ألحان الكوكب سحرًا في حبس الدم.