الرئيسية / الأخبار / فلسطين
نائل البرغوثي: أحلام أسير طاهر تتحول إلى وقائع
تاريخ النشر: الأثنين 31/10/2016 11:55
نائل البرغوثي: أحلام أسير طاهر تتحول إلى وقائع
نائل البرغوثي: أحلام أسير طاهر تتحول إلى وقائع

 بسام الكعبي

الجزء الثاني والأخير

أطلقتْ إدارة سجن رام الله سراح نائل البرغوثي أواخر كانون ثاني 1978 لعدم انتزاع لائحة إتهام، لكن  الاحتلال داهم بعد شهرين منزله في كوبر، وإحتجزه للتحقيق في زنازين سجن رام الله طوال أربعة أشهر، قبل أن تصدر المحكمة العسكرية حكمها بالسجن المؤبد.

نقل أواخر 1978 إلى سجن بئر السبع في النقب المحتل. قَطعَ نائل لأول مرة في حياته الطريق الطويل إلى بئر السبع، وصل السجن  ينزف ألماً شديداً من أسنانه التي حفرها طبيب عيادة سجن رام الله وتركها مكشوفة دون علاج، وإنتظر ثمانية أشهر حتى وفرتْ الإدارة علاجاً للعصب المكشوف.

معجزة حلم

إلتقى الأسير نائل  في ساحة "فورة" زنازين عزل معتقل بئر السبع بالأسير الكفيف محمود أبو دنهش، من بلدة حلحول. إهتم به  بسبب فقدان بصره خلال اشتباك مسلح. ليلة 14 آذار 1979 داهم نائل حلماً في منامه: رافق الأسير أبو دنهش في صعود منطقة جبلية مرتفعة تقع على أطراف أحراش أم صفا غرب رام الله، وقبل بلوغ شارع رئيسي مجاور للأحراش، مَزقَ أبو دنهش مخدته التي كان يحملها معه، وأطلق ريشها في الهواء ولحق بالريش نحو قمة الجبل العالية، فيما علق نائل مع مخدته بين صخور الوادي.

في الصباح روى بعفوية حلمه لرفيقه الأسير الكفيف؛  وقد مضى على معاناته عشر سنوات في الزنازين. صبيحة اليوم التالي 15 آذار، تحقق حلم نائل وحلق أبو دنهش خلف ريش مخدته برفقة 76 أسيراً وأسيرة. طار المحررون من مطار اللد على متن الخطوط الجوية النمساوية، قبل هبوط طائرتهم بمدرجات العاصمة فيينا في طريقهم إلى الجزائر، وذلك باطار صفقة للتبادل أطلقت عليها الجبهة الشعبية (القيادة العامة) عملية النورس.

قضى نائل خمس سنوات يتنقل بين سجني بئر السبع وعسقلان، قبل نقله إلى سجن جنيد غربي نابلس، وقد شهد نقاشاً فكرياً وسياسيا حول حصار بيروت صيف 1982، وأسباب خروج المقاتلين، وشهد في سجن عسقلان انقسام حركة فتح عقب 9 أيار 1983. افتتح الاحتلال سجن جنيد  سنة 1984، وبدأتْ عملية نقل الأسرى إلى أقسامه المختلفة. وصل نائل السجن  مع الدفعة الثالثة  قادماً من معتقل عسقلان يوم 29 تموز 1984، بعد ثلاثة أسابيع على افتتاح المعتقل، وكانت بقايا رائحة الغاز تنتشر في أقسام السجن الجديد عقب إحتجاج الأسرى على اكتظاظ الغرف.

بعد مرور شهرين على افتتاح السجن، اتخذ 800 أسير قرارهم بالاضراب عن الطعام في أيلول؛ احتجاجا على الاكتظاظ وتحسين ظروف الاعتقال. استجابتْ الإدارة للمطالب عقب اضراب تواصل أسبوعين:  تخفيف الازدحام، الموافقة على شراء راديو صغير لكل أسير.

أثير الفرح

إلتقط منتصف إحدى ليالي ربيع 1985 نشرة أخبار إذاعية؛ كشفت تفاصيل اتفاق بين الجبهة الشعبية (القيادة العامة) وإسرائيل على صفقة تبادل للأسرى بواسطة دولية. طيّر نائل الخبر للأسرى وأضاء ليلهم بالفرح.

لم يمض شهر على خبر الإذاعة، حتى وصلتْ قوائم المحررين: يوم السبت 4 أيار 1985، تلا ممثل المعتقل مسلم الدودة أسماء المفرج عنهم للانتقال إلى قسم منفصل، لكن إسم نائل غاب عن القائمة، وظل متماسكاً برفقة الأسير السوري محمد المغربي المحكوم بالمؤبد منذ 1970.

يوم20 أيار 1985 كان الأسرى المحررون في طريقهم بالحافلات إلى مكاتب الصليب الأحمر في الضفة وغزة، فيما نقلتْ ثلاث طائرات مجموعة أخرى إلى مطار جنيف السويسري قبل رحلتهم إلى مطار طرابلس في ليبيا. عاد شقيقه عمر البرغوثي إلى كوبر محرراً بعد قضاء سبع سنوات برفقة الأسرى الذين اختاروا البقاء في قرى ومدن ومخيمات الضفة وغزة. تبقى في سجون الاحتلال 18 أسيرا محكومين بالمؤبد رفض الاحتلال اطلاق سراحهم، موزعين بين سجني جنيد ونفحة أبرزهم: سليم الزريعي، مسعود الراعي، ماهر يونس، كريم يونس، سامي يونس، فخري البرغوثي، نائل البرغوثي، سمير قنطار، أحمد أبو السكر، أكرم منصور، عثمان مصلح، عمر القاسم، سعيد العتبة، أبو علي يطا..

 زنزانة خطفت 8 سنوات!

إحتجز الاحتلال نائل بقسم (7) غرفة (12) في طابق ثالث يطل على شرق نابلس. تحوي الغرفة ثماني أسّرة مزدوجة، وطوال ثماني سنوات حرص نائل على حجز البرش الأرضي، وتبدل على البرش الأعلى مجموعة من أسرى الحرية. رسم نائل طقوساً خاصة: راقب  شروق الشمس على منازل المدينة وتلالها المرتفعة، تأمل ليلاً  القمر والنجوم، رصد  حركة كل نجمة في السماء وتوقيتها. أطلق أسماء خاصة به على النجوم وسجلها في دفتره الفلكي، وعشق واحدة سمّاها بالمهر الجامح؛ لقوتها الهائلة وجنوحها البارز في السماء، تمنى مراراً لو طار في الفضاء محلقاً على جناحها الأسطوري.

شَهَد طوال ثماني سنوات زاوية مستشفى الاتحاد، إسكان المهندسين، أجزاء من جامعة النجاح، جامع المخفية، مدرسة كمال جنبلاط، طريق زواتا وحركة السيارات على الشوارع، وكان سعيداً بمشهد تمدد المدينة وتغيّر معالمها كل يوم أمام بصره، لكنه إكتشف حجم حزنه:  شَهَد مطلع التسعينيات بدء حفريات لبناء عمارتين بمواجهة شباك غرفته تماماً. إنتهى تحت حواسه حفر الأساسات. بدأت عملية بناء الطابق الأول، الثاني، الثالث، الرابع والخامس.  تشطيب العمارتين وتجهيزهما للسكن. لاحظ الاضاءة تغزو الشقق بالتدريج. شَهَد حفلات أعراس وسيارات الفرح. دقق بالصغار يركضون ببراءة في ساحة العمارتين دون أن يدرك سكان العمارتين سر "المتلصص" من شباك زنزانة رقم (12) يتأمل بصمت فك متوحش للزمن ينهش بلا رحمة ثماني سنوات ويصّلبها على جدران زنزانة واحدة!.

تعلقٌ بنور السماء

قرر مطلع 1992 الإلتزام بالصلاة، واتخذ خطوة واضحة بتغيير لقبه من (أبو لهب) إلى (أبو النور) وتخلى طوعياً عن لقبه الذي طارده خمسة عشر عاماً. واظب على قراءة الكتب الاسلامية المتوفرة بمكتبة السجن، وابتعد بالتدريج عن الفكر القومي التقدمي اليساري الذي اعتمده؛ منذ التحاقه بالمقاومة والكتيبة الطلابية أحد أبرز أذرع حركة فتح.

شهد أيلول 1992 إضراب الأسرى عن الطعام، وتواصل على مدار ستة عشر يوماً على وقع حملة تضامن واسعة في الأرض المحتلة، وأحصى نائل سقوط عشرين شهيداً في الضفة وغزة من أجل انتزاع حقوق الأسرى.

عقدتْ منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو يوم 13 أيلول 1993، وأبدى تأييده لمواقف القوى المناهضةلإعلان مبادئ  أوسلو، فيما أعلن طلبة جامعة النجاح  تضامنهم مع أسرى جنيد عقب إضراب شهدته السجون عقب اتفاقية أوسلو. واجه الطلاب جنود الاحتلال بالحجارة، فاستشهد  ثلاثة منهم يوم 25 حزيران 1995: شادي أنور عزايم (21 سنة) من برقة شمال نابلس، وكان يعيش مع أسرته في الكويت قبل عودته إلى الوطن للالتحاق في جامعة النجاح.وائل عبد المعطي الخراز (20 سنة) من نابلس.محمد بشير رمضان (21 سنة) من تل.

غادر يوم 29 تشرين أول  1995 غرفة (12) للمرة الأخيرة، قبيل تسليم سجن المدينة إلى أجهزة السلطة الفلسطينية. تأمل جدران الزنزانة الضيقة التي خطفت وحدها ثماني سنوات من عمره. غادر سجن جنيد لأول مرة منذ أحد عشر عاما: اخترقت "البوسطة" في طريقها إلى سجن الرملة مركز مدينة نابلس، وشاهد نائل الأعلام الفلسطينية فوق المؤسسات الوطنية، واستمع لأصوات الباعة، ودقق في حركة الناس وطوابير السيارات والمنازل والمحلات والبضاعة وملامح المارة والتجار والمتسوقين، وبدا له أنه يعرف كل واحد التقطه بعينيه من قلب المدينة المكتظة بالحركة. لم يجلس على المقعد طوال رحلة "البوسطة"، وظل واقفاً يتأمل كل شيء يسقط تحت بصره في الطريق الممتدة نحو الغرب.

استقر في سجن بئر السبع  شهرين، قبل أن يتخذ قراره بالانتقال إلى أقسام حركة حماس بدافع التشابه في السلوك الاجتماعي: لا يدخن، ولا يسهر خلال الليل. نقل إلى نفحة مطلع 1996، وعثر منتصف نيسان 1997 على عصفوره الرمادي الصغير مغموراً بالرمل، وظل ينفخ في منقاره حتى استرد وعيه وأطلقه حراً إلى السماء. 

نقل إلى سجن عسقلان عام 1997 وشارك يوم 6 أيار 2000 باضراب عن الطعام تواصل خمسة وعشرين يوماً، تضامناً مع أسرى معتقل هداريم الذين بدأوا اضرابهم مطلع أيار احتجاجاً على زجهم في سجن جديد للعزل؛ وشهد خلال الاضراب تحرير جنوب لبنان يوم 25 أيار بفرار جيش الاحتلال ومرتزقة الجنرال أنطوان لحد تحت شدة ضربات جبهة المقاومة اللبنانية.

الوداع الأخير

حظي نائل يوم 10 آب 2004 بزيارة والده بعد انقطاع طويل عن الأهل دام ثلاث سنوات لرفض الاحتلال منحهم تصاريح زيارة.  لم يكن المسن متعباً بل  بكامل حيويته وصحته، وقد توجه إلى فلذة كبده بمفردات توحي بوصيته عندما كرر بوضوح مودعاً: هذه زيارتي الأخيرة لك يا نائل، فإحرص على نفسك، وإضغط على جمرك المتقد أكثر، حتى يحين موعد الفرج.دقق في ملامح والده، وتساءل في سره: لماذا يشدد على مفردة زيارته الأخيرة؟

إنتهت الزيارة سريعاً، وغادر والده عائدا إلى بيته، في حين أقدمت إدارة السجن على نقله بعد ثلاثة أيام إلى معتقل نفحة، متزامناً مع إعلان الإضراب المفتوح عن الطعام الذيطرق أبواب السجون في منتصف شهر آب.

بعد شهرين تقريباً على آخر زيارة لوالده، وتحديدا يوم 13 تشرين أول 2004 علم نائل برحيل والده أثناء وجوده في معبار سجن بئر السبع قادماً من نفحة لحضور جلسة محكمة في الرملة. تدخل ممثل المعتقل لدى إدارة سجن بئر السبع، ليلتقي نائل شقيقه عمر لمدة ساعة في معبار سجن بئر السبع قبل عودته إلى معتقل نفحة. كان الصمت بين الشقيقين الأسيرين أبلغ من الكلام، وهما يستعيدان في الذاكرة كفاح رجل تواصل على مدار سنوات عمره، ورحل بكبرياء يليقبمناضل فذّ، لم يتأخر يوماً عن تقديم واجبه الوطني والإنساني لأبناء شعبه.

أقدمت إدارة سجن نفحة  مطلع نيسان 2005 على نقل نائل بصورة مفاجئة إلى معتقل عسقلان، وبعد أسبوعين هبط الشقيقان عمر ونائل من غرفتهما إلى قاعة إنتظار في السجن وسط حالة استنفار غير عادية للحراس. دخلتْ والدتهما أم عمر منهكة على حمالة، تماسكتْ وقالت أن والدكما رحل قبل ستة أشهر وهو راض عنكما. مرت الزيارة بطقوس حزينة ومؤلمة، وعادتْ أم عمر لاستكمال علاجها بمستشفى المقاصد الخيرية في القدس، قبل أن تغيب فجر 19 تشرين أول 2005 عقب مشوار طويل جداً على بوابات سجون الاحتلال.

تنقل نائل خلال ست سنوات على غياب والدته بين سجون هشارون، ايشل، نفحة، وتحرر من معتقل رمون يوم 18 تشرين أول 2011 في صفقة وفاء الأحرار.

ظهيرة الأربعاء 17 تموز 2013 حَمل نائل على كتفه نعش رفيقه الأسير المحرر أحمد أبو السكر، وسار به مع آخرين مسافة طويلة من جامع بلدة  ترمسعيّا شمال رام الله حتى المقبرة تحت شمس حارقة، ورفض نائل أن يستبدله أحد أثناء التشييع قائلاً: حَمل أبو السكر قضية فلسطين 27 سنة في سجون الاحتلال، لنحمله 27 دقيقة على الأكتاف في رحلته الأخيرة. أصّر مع رفاقه حمل نعش أبو السكر بدلا من استخدام سيارة نقل الموتى. في الطريق الترابية إلى المقبرة، إستعاد نائل تاريخ الرجل الصامت الممدد فوق كتفه، وقد رحل بصمت فوق أكتاف الأجيال المتعاقبة للمقاومة الفلسطينية، بعد  تاريخ حافل من الكفاح.

براعة توظيف المفارقات

طوال 34 سنة في سجون الاحتلال، إمتلك نائل شخصية متماسكة، وقدرة هائلة على  انتزاع المواقف الكوميدية الساخرة في أحلك الظروف القاسية والأوقات العصيبة، وإمتلك براعة اصطياد المفارقات بجملة مركبة من الفكاهة المرة، تثير الاعجاب، وتفتح سكة واسعة على ضحك متفجر، يكشف سر السخرية وروح النكتة التي تمتلكها عائلة البرغوثي بالوراثة.

 نائل شخصية لن تنكسر، وستعود منتصرة قبل نهاية العام الجاري من معتقل النقب بعد إنهاء حكم  بالسجن الفعلي ثلاثين شهراً  دون تهمة! عقب اعتقاله ليلة 18 حزيران2014 من بيته في بلدة كوبر شمال رام الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017