بقلم: المحامي جواد بولس
لا أعرف إن كانت هنالك صلات تنظيمية بين الأجسام التي عارضت تنفيذ مجموعة من النشاطات الاجتماعية والفنية التي كان مزمعًا تنفيذها في بعض من قرانا في الجليل والمثلث. ففي باقة الغربية اضطر منظمو مسيرة رياضية، استهدفت إشراك جميع أفراد العائلة في نشاط ترفيهي هادف، ويشمل عرضًا لسيرك وغيره، اضطروا إلى إلغائها منعًا لـ"الفتنة"، كما جاء في إعلان المسؤولين هناك.
سبق ذلك، توزيع مناشير وبيانات موقعة باسم حركات إسلامية دعت إلى إلغاء الفعّالية، وذلك لكونها لا تتوافق وقواعد الشريعة الإسلامية، وبما قد يتيحه الاختلاط من وقوع النساء المشاركات في الخطيئة والشرك.
في عكا تصدّت مجموعة من التكفيريين لعرض فرقة "وطن على وتر"، ومنعت الجمهور من دخول قاعة العرض بحجة أن الفرقة تعرّضت، في الماضي، في أحد عروضها، الساخرة الناقدة للإخوان المسلمين.
وأخيرًا، في سخنين اعترضت حركة إسلامية على عرض فيلم "المخلص" الذي يروي قصة المسيح، ولتوضيح موقف المعارضين نشر خمسة من أئمة مساجد سخنين بيانًا عللوا فيه موقفهم الرافض لعرض الفيلم بارتكاز روايته على ما جاء في إنجيل لوقا عن حياة المسيح، وليس كما قبلتها العقيدة الإسلامية.
إلى ذلك فلقد "نصح" الأئمةُ المسيحيين، إذا أرادوا، أن يعرضوا الفيلم أن يعرضوه في كنائسهم أو بيوتهم. ووعدوا بأنهم سيبقون: "حصنًا حصينًا للدفاع عن عقيدتنا وشريعتنا وقرآننا الكريم".
نحن إزاء ظاهرة قطرية تعكس نمو فكر تكفيري ينتشر بوتائر سريعة. لن يشذ أصحاب هذا الفكر عمّن سبقوهم في الحركات السياسية الإسلامية التكفيرية، ولسوف يحذون حذوهم في مساعيهم لفرض ما يحسبونه حقهم وواجبهم في سبيل الذود عن إيمانهم، كما يفهمونه، فدونه، كل موقف وفعل وإيمان باطل ولاغ وحرام.
أمامنا المشهد واحد، فمن ينتظر ماذا؟ وماذا يجب أن يحدث كي يستشعر المؤمنون بالإنسان ورفعته وبحرّية الكلمة والرأي والعبادة، أن الخطر داهم، وأن الوضع أعوص من طبطبة هنا وكلام عن الأخوّة والتسامح هناك، فلقد علّمنا التاريخ أن إنكار الوجع لا يوقف النزف، وإطباق العيون في الظلمة لا يستحضر النور، ودائمًا كانت الوقاية خير من قنطار علاج.
ما جرى في سخنين هو فصل من فصول الرواية ذاتها، وقد يتوهّم البعض أن للقضية أبعادًا طائفية فقط، وأنا لا أرى ذلك، لأنني أرى أننا قد تخطينا هذا التوصيف وما نحياه اليوم، في فلسطين الكبيرة، هي حالة أقرب إلى "البوستطائفية"، أي ما بعد الطائفية. ففي باقة الغربية هناك المسلمون فقط، وعكا مدينة الحب والريح كانت، وأمّا في سخنين، فالمسيحيون تذكار لمعنى الحنين؛ أقلّية، كأخواتها، تؤمن، ونحن في أيام الفصح المجيد، "بوصية المحبة" التي أوصاها المسيح لتلاميذه بعد عشائه الأخير معهم: "أحبوا بعضكم بعضًا، كما أنا أحببتكم، بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي.." فهكذا كانت وصية الفلسطيني لأتباعه قبل ألفي عام، (أو"المخلص" كما سمّاه ذلك الفيلم المحظور).
نجحت، في المواقع الثلاثة، تلك الجماعات، في تحقيق ما ناشدت به، وخضع القائمون على النشاطات وقرروا إلغاءها، درءًا لوقوع الفتنة، كما نقلوا مبررين وشارحين.
إن الرضوخ لمطالب تلك الجماعات والتنازل عن محاولات التحاور معها والعزوف عن مناقشة مواقفهم، يشكّل تراجعًا خطيرًا وهو، بحد ذاته، مسببًا لزيادة في شهيّتها واستغلالها لمضاعفة مطالبها وشد ملازمها على مجتمعاتنا كلّها.
بالمقابل، فلقدغابت، كما في كثير من هذه الحالات المشابهة في الماضي، أصوات معظم الأحزاب (دان حزب التجمع هذه المواقف في بيان مستقل واضح. ولسوف أتطرّق لاحقًا "للا موقف" الجبهة والعربية للتغيير) والمؤسسات والشخصيات، لا سيّما من يعرّف ذاته منهم بالمثقف المتنور، أو الديمقراطي أو المتحرر وما إلى ذلك من تصنيفات تساق من على منصات مؤتمراتهم البحثية الأكاديمية، فباستثناء بعض الأصوات النقية الجريئة، صمت رئيس لجنة الرؤساء السخنيني ومعه صمتت معظم الرؤوس، أما لجنة المتابعة العليا فأثبتت مجددًا أنها سيدة "التطنيش".
صمتكم يا سادة، بمثابة خوذات تحمي رؤوس من يسعى لإسدال الستائر على مسارحنا وإطفاء القناديل في حاراتنا.
وأخيرًا، عساكم، أيّها المتفرجون أن تعتبروا من دروس التاريخ ومما حصل مثلًا، في زمن المحنة وما تلاها. فلقد وصل الذل إلى "ابن حنبل" وهو واحد من أئمة المسلمين بإجماع العامة والفقهاء، فحين كفّرته طائفة، سجنه الخليفة المأمون بن هارون وعذّبه وتمادى في ذلك من بعده "المعتصم"، الذي أمر الجلادين، فعلقوه بين السماء والأرض وضربوه إلى أن أصابه أحدهم بسوطه فقطع جلد بطنه وتدلت أمعاؤه... ثم ألقوه ليظل لأكثر من عشرين عامًا مستترًا في بيته مخلوع الكتفين، مفتوق البطن حتى مات.
نحن شعب يتوق إلى حرّيته ويكافح من أجل حياته الكريمة وكرامته التامة، فلا أحد يعترض على حق أي جماعة أو طرف، في التعبير عن رأيه الرافض لهذا الموقف أو ذلك الفكر، أو أن يتحفظ على عرض مسرحية أو فيلم، أو إلقاء قصيدة أو أغنية. ولكن، بين هذا الحق ومحاولة فرضه بالترهيب والوعيد والتلويح بفتنة دانية ودماء قد تراق، البون شاسع؛ فعندما يصير الرأي، لدى فئة أو جماعة أو فصيل، مقدّسًا والإيمان مطلقًا، تسقط الضحايا، وتصبح الحياة، حياة الآخرين، مجرد ذبيحة وأرخص من عفطة عنز.