بقلم: رائد محمد الدبعي
للشهداء أسرارهم، بعضها أزلي في لوح محفوظ ، والآخر مباح، مشتهى، تشي به طلتهم البهية، وحضورهم الطاغي في أدق التفاصيل، فللشهداء حينما يعطرون أسوار القدس قبل تسلل خيوط الشمس رائحة تعرفها المآذن والقباب، ولأكفهم الممدودة بالدعاء لفلسطين واهلها بالخير، سحر تعلمه سهول الوطن وجباله وروابيه، وتعلم أنه حق، وتعرفه كل زيتونة تنتصب هي الأخرى مشروع شهادة في وجه الاستيطان والاقتلاع، وللشهداء طقوسهم اليومية بالوفاء، بعضهم يبدأ يومه باكرا قبل تنفس الصبح، ليبرق سلاما للصيادين على شواطئ عكا ويافا وغزة هاشم، وبعضهم يفضل الانتظار قليلا، ليشارك مآذن القدس تكبيراتها، وأجراس الناصرة والجليل دقاتها، فيما يملأ البعض سماء الوطن، فهذا سنبلة تتفتح مع الربيع لتعلن ميلاد إصرار جديد، وتلك تحرس أحلام الأطفال بغد يحمل في طياته وطن حر عزيز سيد كريم، وهذا يشد أزر المقاومين في كل الميادين، وذاك يفرح لميلاد طفل فلسطيني جديد، فيما يقوم بعضهم بالتضرع إلى الله أن يحفظ امتنا العربية في فلسطين، والعراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، ومصر، وكل بقاع الأرض، وأن يعجّل من يوم النصر والتحرير.
جاسر عثمان دويكات، أحد هؤلاء الشهداء الذين تحتفي الملائكة ورفاق دربه الشهداء بعيد شهادته الرابعة والثلاثين في هذا اليوم، لا نعلم كيف وأين سيحتفي به الشهداء في الجنة، لكننا نعلم جاسر جيدا، ونستطيع تخيل سيناريو هذا اليوم، وكيف سيقضيه قائدنا البطل.
سيبدأ جاسر يومه من قرية عسكر البلد، سيطمئن أن ابنه عمار ما زال على العهد ويهديه السلام، سيقبل وجنات أحفاده، سيمر على إياد ، وسيقول له بكل حب، كم أنا فخور بأنك من صلبي، ويلا ليتك تعلم كم أعتز بك بين رفاقي الشهداء، سيقبل يد أمه الصابرة، ويهديها سلاما، سيمكث في حضنها قليلا، قبل أن يقول لشقيقه طلال، التحديات كبيرة، والأمانة عظيمة، لكنني أعرفك جيدا، وأعرف أنك حارس البيدر، وحامي ظلال اللوز والزيتون، سيقف كثيرا أمام سرحان، سيقول له، الشهداء يهدوك تحية من عليين، وسيسلمه رسالتين، أولاهما من ياسر عرفات، والأخرى من خليل الوزير أبو جهاد، لا نعلم ما بهما، فهما من رسائل زمن الثورة المحاط بالسرية، لكن سرحان يعلمهما جيدا، ويحفظهما عن ظهر قلب، سيبرق رسالة لبديع ومشوح وأبنائهم، ويقول لهم انتم والوطن في القلب والذاكرة.
سينطلق جاسر ليرسل قبلة لمخيم بلاطة، ولكل الأهل في عسكر وبلاطة البلد، سيزور حارة الياسمينة، ويطمئن على الأمل، سيزرع بعضا منه في حواري البلدة القديمة، قبل أن يبرق تحية للريف الصامد الثائر، سيغادر جبل النار في منتصف النهار، سيدخل دون قيود إلى زنزانة ابن شقيقه عهد سرحان دويكات في "بتاح تكفا" ، سينظر له نظرة لا يعلم سرها سوى الأحرار، نظرة تمتزج بها رائحة الذكريات بالفخر، والدعم والتعزيز، سيقول لعهد، أعدتني إلى سنوات الزنزانة والصمود والصبر، ليس غريبا أن يكون ابن سرحان في زنازين تحقيق المحتلين، وليس غريبا أن ينتصر على جلاديه الفاشيين.
لن يعود جاسر للجنة قبل أن يزور مكان الإستشهاد، سيطمئن على كل زيتونة، وكل حبة تراب، وكل نسمة هواء، سيبرق رسالة إلى المحتلين قائلا، بدمنا النازف سنحاربكم، وسينتصر الكف على المخرز، فنحن الشهداء لا نعد إلا الوعود الحق، وما دام في شعبي طفل يولد، وامرأة تنجب، ومطر يروي الأرض، فنحن والنصر على موعد لا يخلف الميعاد.
تحية لك أيها الشهيد الحي، يا وجه القمر، وطهر الرغيف، تحية لدمك النازف عزا وفخرا، لك منا ومن رفاق درب إياد وعمار، ومن تلاميذ سرحان وطلال، وكل رفاق الدرب عهد ان نبقى على الدرب حتى الحرية التي تليق بتضحياتكم .