يوميات مواطن عادي
(62)
بوابة النقد المغلقة في وجه المواطن
الاجواء البارد والماطرة التي مرت وتمر بها البلاد هذه الايام تعيد للأذهان مرة تلو الاخرى مسلسل الازمات المتواصلة التي نعيشها. وتكاد الازمات تكون هي المشهد السائد في حياة مجتمعنا هذه الايام، والحديث هنا على مستوى تفاصيل الحياة اليومية، والخدمات الاساسية التي تعتبر من ابسط الحقوق الانسانية. ما ان تطل زخات الامطار الاولى برأسها معلنة عن افتتاح هذا الفصل حتى تتكشف لنا جميعاً هشاشة البنية التحية، وما ان تتحرك اولى هبات الرياح حتى يزداد ذلك وضوحاً، وعند اشتداد المطر والرياح، وعند تساقط الثلوج، مع ارتفاع درجات الحرارة صيفاً. وحتى في فصل الربيع حيث يخرج المواطنون للتنزه، في الخريف. في اول النهار وعند الظهيرة وفي نهايته، مع بدايات الليل ونهايته.
هكذا أصبح روتين الحياة اليومية للمواطن، تعطل وانقطاع خدمات الكهرباء والغاز والمحروقات والاتصالات والمياه... وغيرها من الخدمات. أزمات سير خانقة في معظم ساعات النهار، وفي معظم الشوارع، في مراكز المدن وعلى أطرافها وفيما بينها، وحتى في البلدات والقرى. أزمة وتزاحم وطوابير انتظار طويلة هي السمة الاساسية التي نجد أنفسنا نغرق فيها في كل وقت ومكان. وبصورة إجمالية هناك تراجع مستمر في مختلف الخدمات، سواء تلك التي تقدمها الهيئات والمؤسسات العامة، بما فيها الهيئات المحلية. أو تلك التي تقدمها حتى الشركات والمؤسسات الربحية والخاصة.
كل هذا ليس غريباً، فنحن لا زلنا في مرحلة بناء، وتحديداً مرحلة بناء مؤسسات الدولة المستقلة. وخلال ذلك من الممكن أن تتعثر بعض الهيئات، وبعض مجالات العمل، بل من الممكن ان تتراجع. انه أمر طبيعي، حدث ويحدث في حياة المجتمعات البشرية. ويمكن للمواطن العادي ان يتفهم هذا الامر ويتقبله. لكن ما لا يمكن تفهمه او تقبله بأي شكل من الأشكال هو استمرار التعثر والمراوحة في المكان لفترات طويلة، هذا إن لم نقل التراجع ثم التراجع.
الغريب فقط في كل الأمر هو ان يستمر التعثر والتراجع تحت شعارات ويافطات عريضة تتمحور حول عنوان "خدمة المواطن" او الوطن. تتلخص الصورة في ذلك الشعار الذي نراه ونسمعه كثيراً هذه الايام: "نأسف لإزعاجكم، نعمل لأجلكم". وهكذا على المواطن ان يتقبل مثلاً ان الشارع مغلق لعدة اسابيع لأن هناك اعادة تأهيل له! والكهرباء مقطوعة لأنه يتم صيانة الشبكة! ونفس الامر بالنسبة للمياه والمحروقات والاتصالات! على المواطن ان يتقبل الوقوف في طابور انتظار طويل لأنه يتوجب تنظيم عملية الحصول على الخدمة! وهكذا تستمر نفس الاسطوانة في الدوران، ولا يتحسن أي أمر، هذا إن لم نقل أن الأمور آخذه في التردي والتراجع.
اما الأغرب في كل ذلك فهو نمط "تكميم الأفواه" الذي يتم "تطويره" باستمرار. وهو من ذلك النوع الأقرب الى المنهج "التكفيري". فلا يكاد المواطن يفتح فمه منتقداً او حتى متسائلاً عن اسباب تعثّر او تراجع الخدمات في أي مجال كان حتى يأتيه الرد: بأن ذلك يحتاج الى تخطيط وجهد منظم. ولا يكاد أي مواطن يفتح فمه منتقداً "جودة العمل" او بالأصح "قلة جود العمل" حتى يأتيه الرد سريعاً بالحديث عن الطواقم التي تعمل ليلاً نهاراً، في البرد والمطر والثلج والشمس الحارة حتى تفتح الشوارع التي اغلقتها المياه او تعيد التيار الكهربائي... الخ من الخدمات، وخاصة في ظروف الطوارئ والأزمات.
المواطن بصفة عامة يعلم طبيعة ونوعية العمل الذي تقوم به الطواقم الميدانية، في الشرطة والدفاع المدني والأجهزة الامنية ومراكز الاسعاف والطوارئ وموظفي الصيانة والعمل الميداني في مجال الاتصالات والكهرباء والمياه وغيرها. وهو يقدّر طبيعة هذا العمل والجهد ويحترمه الى حد كبير. اما النقد فهو باعتقادي موجه بصورة مستمرة الى أصحاب القرار والطواقم المسئولة عن التنظيم والتخطيط، وليس الى الطواقم التنفيذية العاملة في الميدان. ولسان حال المواطن يسأل دائماً: كيف خططتم، وكيف ادرتم واشرفتم وراقبتم وقيًمتم انجاز هذه الاعمال؟! هل حاسبتم احداً؟ وكيف؟ عندما تكشفت قلة جودة ونوعية الخدمات المختلفة؟
خلاصة القول ان خلط الأمور بهذه الصورة، انما يأتي في باب الخداع والتضليل، والاختباء خلف طواقم العمل الميداني والاحتماء بدورها وتعبها وسهرها على راحة المواطن. بل ربما هو اسلوب جديد من أساليب "تكميم الأفواه"، وإسكات أي صوت ونقد موجه الى مستويات صنع القرار، حتى لو كان نقد ايجابي هادف، بل وتصوير هذا النقد وكأنه هو الذي يعيق عمليات التنمية والتطوير. اعتقد ان هذا وجه أخر من وجوه الفكر "التكفيري" و"التخويني"، وهو فكر لم ولن يقودنا الا الى التراجع والغرق في متاهات الجهل والتخلف.
رام الله-17 كانون أول 2016