نابلس-هبة بطة -ذات يوم كان يوجد في نابلس فنادق شعبية كثيرة وكان نزلاؤها يأتون من بيروت والشام وعمان. أما اليوم فقد أغلق معظمها وما تبقى منها يشكو من قلة النزلاء وبات على وشك الإغلاق. بنسيونان فقط برائحة قديمة تبقيا من أصل أكثر من 15 فندقا بنابلس، ولكن بطراز مستحدث علّها تصمد أمام تحديات العصر.
زهرة الشام والاتحاد ودار الفرح والتاج والانشراح وأمية والعرب وفلسطين والنهضة: أسماء لبنسيونات قديمة أغلقت أبوابها إمّا لعوامل اقتصادية أو غيرها. لا توجد إحصائية دقيقة لعدد الفنادق الشعبية التي كانت موجودة في نابلس بالماضي، لكن البعض يقدر عددها بخمسة عشر فندقا أو أكثر.
بنسيون رمسيس، أسسه حسن هندية عام 1964، وتوارثه ابنه محمود الذي يجلس على نفس الكرسي ويبلغ اليوم 64 عاماً. ممراته ضيقة وأرضيته مشققة وجدرانه عتيقة، وعدد الغرف لا يتجاوز التسع. روى لنا محمود هندية حكاية هذا البنسيون الشعبي واضعاً يديه على وجهه الذي يمتلئ بالتجاعيد لتحدثنا كل تجعيدة قصة مختلفة عن الأخرى. يذكر لنا أيام ازدهار البنسيون، عندما كان النزلاء يتوافدون إليه من مختلف الدول العربية مثل مصر والأردن وسوريا وغيرها. أما اليوم فقد قلّ عدد النزلاء وأنحصر بالتجار من المدن المجاورة فقط.
إغلاقات وتغيرات
أُغلق البنسيون لأول مرة عام 1987 في الانتفاضة الأولى بسبب الأوضاع السياسية الصعبة، وتحوّل الى معهد تدريس للطلاب بعد إغلاق المدارس والجامعات. وقد شك الاحتلال بوجود أمر مريب في المكان وقاموا باقتحامه وخربوه وكسروا الأسرة والأبواب وأطلقوا الرصاص على الأرض والجدران، واتخذوه نقطة عسكرية لمدة شهر كامل.
وفي الانتفاضة الثانية حوله الجيش الإسرائيلي إلى نقطة عسكرية لمدة أسبوعين. وكحال المرة الأولى تم تدمير محتوياته وأطلقوا قذيفة على الأرض سببت حفرة فيها. ويتابع هندية حديثه بإنهاك وتعب قائلا “الآجار هنا بأسعار رمزية، ولا تكفي لتغطية تكاليف المكان. عدد الزبائن قليل وأنا كبير ولم أعد أحتمل هذه المهنة، ولا أريد توريثها لأبنائي. ولكن ما دمت على قيد الحياة سوف أبقى هنا، ولكن بعد موتي لا أعرف ماذا سيحل بهذا البنسيون”.
حكاية تهجير
بسبب النكبة عام 1948 هُجّر إبراهيم عيران من يافا تاركاً وراءه ثلاثة فنادق كان يمتلكها هي الاستقلال وزهرة الشام والاتحاد، واعتبرها الإسرائيليون أملاك غائبين. وعند هدوء الأوضاع قليلاً رجع إلى يافا وسأل عن فنادقه ليجد أنها تحولت إلى مخازن لقوات الاحتلال، عندها أصيب بجلطة قلبية مات على إثرها عن عمر يناهز 55 سنة. كان عيران يملك فندقين في مدينة حيفا أيضا هما التاج وأُمية، وكان مصيرهما كمصير فنادقه بيافا، وعندما هُجر من مدينته عام 48 أنشأ بنسيون الاستقلال في نابلس. يدير هذا البنسيون الآن ابنه فيصل عيران 64 عاماً، ويقول “كان لدينا بنسيونان آخران في نابلس وأغلقا بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية آنذاك”.
يمتاز بنسيون الاستقلال بمبناه القديم وعمارته المميزة، التي تجعله مرغوباً من قبل السياح الإسبان خاصة وكأنه مبنى في الأندلس، وله حديقة خلفية جميلة مظللة بالأشجار ورائحة زهر الليمون. وتطل الحديقة من الشمال على مبنى البلدية ومن الجنوب على سينما العاصي قديماً، ويسهر الزوار فيها في ليالي الصيف. ويمتاز بنسيون الاستقلال ببهوه الفسيح وغرفه الواسعة وأرضيته المكسوة بالبلاط البلدي القديم ونوافذه الكبيرة. ورغم وجود أربعة أسرة أو أكثر في الغرفة الواحدة، إلا أن الزائر لا يشعر بضيق المكان.
رابطنا مع العالول والشكعة
ولبنسيون الاستقلال حكاية أخرى، ففي الانتفاضة الأولى قال أهالي المدينة نريد أن نرابط، وكان على رأسهم محافظ بلدية نابلس لاحقاً محمود العالول، وغسان الشكعة رئيس البلدية حيث حوصرا في مبنى البلدية القريب من البنسيون. وقام الإسرائيليون بفرض منع التجول ومن ثم قاموا باقتحام البنايات والبيوت، ويتذكر عيران تلك الأيام مبتسما ويقول: “هربنا من المكان إلى البلدية لأن اليهود اقتربوا منا كثيراً، وبالفعل دخلوا الفندق وحولوه إلى نقطة عسكرية لمدة ثمانية أيام. وقاموا بعمل فتحات في الجدران لتسهيل العبور من عمارة إلى أخرى”.
وفي الانتفاضة الثانية، احتله الجيش الإسرائيلي لمدة 23 يوما وخلف دمارا هائلا. ويقول عيران: “عندما كان يأتي الاحتلال إلى المدن كان يقوم أولا بضرب مركز الشرطة، فكان رجال الشرطة يهربون ويأتون إلى فندقي، وكنت استقبلهم بكل رحابة صدر، نتقاسم الأكل ونقسم الخبزة الواحدة الى خمسة أجزاء”. ويضع عيران يده على رأسه ويضيف: “عندما كان يشتد بنا الجوع كنا نغلي الماء ونضع فيه السكر ونحسبه شاياً، والله وحده يعلم كيف كانت تلك الأيام”.
كل البنسيونات عانت من قوات الاحتلال وويلاته، فلم يتبق بنسيون إلا ودخلته وعاثت به فساداً، ومن الطبيعي أن يقوم أصحاب البنسيونات بعد الدمار بمطالبة الجهات المسؤولة بالتعويض أو بعمل إصلاحات للمكان، ولكن دون جدوى.
بورقيبة في بنسيون فلسطين
في بنسيون فلسطين الذي أُغلق وحلّ مكانه الآن وكالة الغوث الموجودة في شارع الفاطمية، نزل الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة عام 1965. وقام بورقيبه بإلقاء خطابه من إحدى نوافذ الفندق ودعا فيه إلى سلام مع إسرائيل. ويتذكر الثمانيني رياض عبد الهادي ما جرى في ذلك اليوم ويقول: “عندما أنهى خطابه قمنا بالصراخ وقذف البندورة والبيض عليه لأننا لم نتقبل ما كان يقوله، ولم نكن نريد التوقيع مع اليهود وقلنا له يومها بالحرف الواحد يا خاينإنزل يا خاين”.
بنسيون فلسطين تأسس عام 1930، وكان يمتلكه ثلاثة أخوة هم: توفيق وكامل ونيكولا الخوري. وقد زاره أيضا الملك الأردني حسين بن طلال.
ويضع رياض عبد الهادي يديه المجعدتين على نظارته وينزعها عن وجهه وينظر بعينيه الضئيلتين نظرة أعاد فيها رسم جميع ذكرياته الجميلة التي كانت في الفندق ويقول: “كنا نذهب إلى البنسيون لنتعشى أنا وأصدقائي ونقضي وقتا جميلا، والله كانت الحياة حلوة، أما الآن فلا، أحاديثنا الممتعة التي كنّا نمزجها بشرب القهوة والشاي ذهبت”.
ويقاطع حديثه صديقه محمود دويكات 86 عاماً، ويقول ضاحكا: “كنّا نستمع إلى الأغاني، كان يوجد صبي صغير له صوت رائع نستمع إليه ونحن نأكل عشاءنا”
“لا حياة لمن تنادي”، هذا ما قاله أحد أصحاب البنسيونات، ربما لهذا الأمر دور كبير في إغلاق العديد من بنسيونات نابلس، وهذا ما سيحدث بالطبع لبقية البنسيونات إذا لم يتم دعمها والمحافظة عليها.