memantin iskustva memantin alzheimer memantin wikipedia"> memantin iskustva memantin alzheimer memantin wikipedia">
مقدمة:
لقد اهتم القرآن الكريم بالمصالحة في العديد من آياته واعتبرها الحل الأمثل والنافع للناس والناجع لحل كثير من النزاعات والخلافات، فحث عليها واعتبر التمسك بها من فضائل الأعمال، قال - تعالى -: ( إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) النساء: 114، وشكلاً من أشكال الإيمان وموجباً من موجبات الأخوة، قال - تعالى -: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الحجرات: 10
ولقد تعددت المبادرات، وتعالت الأصوات في الفترة الأخيرة مطالبة بالإسراع في تحقيق المصالحة بين أبناء المجتمعات المسلمة في الجزائر والمغرب والسودان ومصر والعراق وتونس وليبيا ولبنان وفلسطين واليمن وتركيا وباكستان ومالي....إلخ والخروج بها من المأزق الراهنمن خلال إنشاء هيئات وجمعيات ومنظمات وتشريع قوانين للمصالحة مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، فهي قوة معنوية وأخلاقية وضمير حي، انبعث من تحولات وتداعيات وتحديات و صراعات مريرة وقعت في المجتمع وفي السياسة، وهي تعبير عن انتصار قوة العقل والسلم وإسكات لصوت الرصاص، وهي سلطة معنوية وأخلاقية تعيد الاعتبار للضحايا ولذاكرة المجتمع الإسلامي (1).
إن المصالحة بين أبناء الشعوب الإسلامية ضرورة دينية، وإنسانية، وحضارية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية، ونفسية، لا يستغني عنها أي مجتمع مسلم من أجل تأكيد التلاحم بين أبنائه، وترسيخ قواعد الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية وإشاعة أجواء المحبة والانسجام بين مكوناته المختلفة، فيجب على أبناء الأمة الإسلامية شيباً وشباباً رجالاً ونساء السعي الحثيث والعمل المتواصل الدؤوب للوصول إلى الأهداف والمقاصد السامية والقيم الإنسانية الرفيعة التي يهدف إليها الخطاب المقاصدي للمصالحة في القرآن الكريم (2).
فما المقصود بالمصالحة؟ وما أحكام الصلح المرغب فيه في الخطاب القرآني؟ وما مجالات المصالحة في القرآن الكريم؟ وما هي آليات تطبيقها عملياً؟ وما هي الأبعاد المقاصدية لخطاب المصالحة في القرآن الكريم وما أهمية إصلاح ذات البين وما دور المجتمع في تحقيق ذلك؟
للإجابة عن التساؤلات السابقة قسمت البحث إلى ستة مطالب
المطلب الأول: تعريف المصالحة لغة واصطلاحاً وأصل مشروعيتها
إن المصالحة من الصلح والإصلاح، ومعناه الإغضاء والتساهل، وعدم التقصي في استيفاء الحقوق بين المتنازعين، بترك كل فريق بعضا من حقه، ليجتمعا على كلمة سواء وهو مدعو إليه طبعا، ومرغب فيه شرعا في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال - تعالى -: ( لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاس) النساء آية 114، وقال - تعالى -: (وَالصُّلْحُ خَيْر) النساء آية 128، وقال - تعالى -: ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين) الشورى آية 140، وفي الصحيح أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)) البخاري رقم 2693، وفي الصحيح: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ "
ولقد اقترن الإصلاح في القرآن بأشياء كثيرة، أحياناً يقترن بالإيمان "فَمَنْ آمَنَ وأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ" ويقترن بالتقوى "فَمَنِ اتَّقَى وأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ" كما يقترن بالتوبة في كثير من الآيات فعلاً ( إلاَّ الَذِينَ تَابُوا وأَصْلَحُوا واعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ)؛ لأن التوبة تعني البراءة من الماضي وأن نفتح صفحة جديدة والإصلاح يعني إننا نعمر هذه الصفحات بالحسنات (3).
المطلب الثاني: أحكام الصلح المرغَّبُ فيه شرعاً
من أحكام الصلح المرغب فيه ما يلي(4):
1 - أن من ثبت له من المتخاصمين الحق، من دم أو عرض أو مال، الأفضل له بعد ثبوت حقه وبيانه له أن يتسامح ويتجاوز ويتصدق بالحق على صاحبه، فذلك كفارة له، قال - تعالى -بعد أن ذكر أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، قال: ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) المائدة آية 45.
2 - التصالح والتسامح المرغوب فيه شرعا، إنما يكون مع من صدرت منه الهفوة والخطأ وتاب منه، فهذا هو المَعْنِيّ بالعفو والصلح في قوله - تعالى-: ( فَمَنْ عَفا وَأَصْلَح) الشورى آية 40، وقوله: ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور) الشورى آية 43 وقوله - تعالى -: ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) فصلت آية 34.
أما من كان مشهوراً بالبغي مجاهراً بالعدوان والإجرام، فالقصاص منه شرعاً أولى لقول الله - تعالى -: ( وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) الشورى آية 39، فقد جاءت الآية في معرض المدح عقب قوله - تعالى -: ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) الشورى آية 38، ومحلها من كان مشهوراً بالبغي والعدوان.
3- الصلح المرغوب فيه شرطه ألا يحل حراماً أو يحرم حلالاً، قال - صلى الله عليه وسلم -": (( الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا)) الترمذي رقم 1272
4- لا يجوز إقرار مبدأ في الصلح يترتب عليه ظلم بريء، وذلك مثل إقرار عقوبة جماعية على أهل بلدة بأسرها وقع منها تعد على الحرمات والدماء، لأن البلاد المتهمة بالتعدي لا بد أن يوجد فيها الصغير والمرفوع عنه القلم والكبير العاجز ومن لم يرض بفعل أهلها، ولا قدرة له على منعهم، فإقرار مبدأ عقوبتهم جميعا، كتهجيرهم من ديارهم هو صلح بما حرمه الله - تعالى -من الظلم، وقد قال الله - تعالى -: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا) الفرقان آية 19 وقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) المائدة آية 8 وقال - تعالى -: ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الأنعام 146.
5 لا يجوز لأحد ظُلِمَ أن يتولى القصاص من الظالم بنفسه، بل عليه أن يرفع ذلك إلى القضاء، فالقصاص واسترداد المظالم لا يكون إلا عن طريق الأئمة والحكام، وذلك بإجماع الأمة.
6 الحاكم الذي يرفع إليه الأطراف خصوماتهم لينظر فيها، يندب له أن يأمر الأطراف بالصلح والعفو، ولا يحوجهم إلى تتبع الصغير والكبير من حقوقهم، وذلك بشرطين:
الأول: موافقة جميع الأطراف على مصالحته والرضا بها، فإن رد أحد الأطراف الصلح يجب على من يتولى الصلح استيفاء الحق لأصحابه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حين رد خصمُه الصلحَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ))إحالة . البخاري رقم 2509)).
الثاني: أن لا يتبين للحاكم الحق بعد أن يكون قد نظر في الدعاوى وسماع البينات، فحينها إن تبين له فلا بد أن يبين لصاحب الحق حقه، ثم بعد ذلك إن أراد أن يترك صاحب الحق حقه فالأمر له، وذلك لما جاء في رسالة عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري: "فاحرص على الصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء".
7 الصلح والتنازل عن الحق كله أو بعضه، لا يكون إلا ممن ملك ذلك الحق، فلا يجوز الصلح أو التنازل عن الحق من غير صاحبه الذي يملكه، سواء كان الذي لا يملكه الدولة أو الأفراد، فقد قال الله - تعالى -: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (الإسراء آية 33) ومعنى هذا أنه ليس لأحد أيا كان، الحكومة أو غيرها، أن تعفو عن أحد أجرم في حق الوطن، بقتل أو نهب مال أو غيره، إلا ممن له ولاية على ذلك شرعاً.
8 - عدم جواز المصالحة مع من تلوثت أيديهم بالدماء، ومن صدرت ضدهم أحكام قضائية في جرائم القتل والعنف وتخريب الممتلكات العامة والخاصة. ومطالبة جميع التيارات الشعبية والقوى السياسية ومؤسسات الدولة بالإسراع في تحقيق المصالحة الوطنية ولم الشمل لبناء الدولة حتى يتحقق الأمن والأمان والاستقرار للوطن والمواطنين.
المطلب الثالث: مجالات المصالحة ونماذج منها في القرآن الكريم:
الفرع الأول: مجالات المصالحة في القرآن الكريم (5):
لقد جاء خطاب المصالحة في القرآن الكريم شاملا ومستغرقا للبشر جميعا وللموضوعات كلها، فالمصالحة في الخطاب القرآني مطلوبة من البشر جميعا وبين البشر جميعا وفي مختلف روابطهم النسبية والاجتماعية والإنسانية.
- فالمصالحة مطلوبة داخل الأسرة بين الزوج والزوجة، قال - تعالى -: ( فلا جناح عليهما أن يصالح بينهما صلحاً والصلح خير) النساء: 128. ويقول أيضا: ( إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) النساء: 30، وقال أيضاً: ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) [البقرة: 22. وهي مطلوبة بين أفراد المجتمع المسلم وشرائحه المختلفة وتياراته المتعددة، قال - تعالى -: (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ) الأنفال: 1.
- والمصالحة مطلوبة بين المسلمين وغيرهم من الشعوب والمجتمعات المغايرة لهم في الدين والثقافة والحضارة، قال - تعالى -: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) الأنفال: 61.
- كما أن المصالحة في الخطاب القرآن مطلوبة في الموضوعات كلها وفي المجالات كلها، ذكر الخطاب القرآني البعض منها على سبيل المثال لا الحصر، منها: مجال المعاملات مثل البيع والشراء والوصية، قال - تعالى -: ( فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) البقرة: 128. ومنها مجال الأزمات السياسية والنزاعات المسلحة، قال - تعالى -: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) الحجرات: 9
الفرع الثاني: نماذج من التطبيق العملي للمصالحة في الخطاب القرآني: (6)
لقد نقل الخطاب القرآني العديد من المشاهد والوقائع عن المصالحة من سير الأنبياء والمرسلين حتى يقرب للناس صورتها ويشجعهم على الاقتداء بها. ومن هذه النماذج:
1. عفو الله - تعالى -عن آدم - عليه السلام -:
أول مثال يسوقه الخطاب القرآني للناس عن المصالحة هو عفو الله - تعالى -عن أبي البشر آدم –عليه السلام -، فإن آدم عصى ربه وأكل من الشجرة التي نهي عن الأكل منها، ثم عاد عن ذنبه واستغفر ربه فتاب، قال - عز وجل -: ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة: 37. فكانت هذه المعاملة الإلهية الرحيمة درسا بليغا لآدم ولذريته من بعده حتى يجعلوا العفو والمصالحة عملة يتداولونها بينهم في الحياة.
2. المصالحة بين يوسف وإخوته:
إن من أعظم قصص المصالحة والعفو في الخطاب القرآني قصة المصالحة بين يوسف - عليه السلام - وإخوته، هذه القصة التي مرت بفصول تراجيدية تمثلت في تآمر إخوة يوسف - عليه السلام - ورميهم إياه في البئر وتسببهم له في ألوان من الأذى النفسي والمادي، ثم عرفت نهاية سعيدة بين الإخوة حيث اعترف الظالم بذنبه في حق المظلوم.
قال - تعالى -: (قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) يوسف: 91. وتنازل المظلوم عن حقه في القصاص من ظالمه وعفا عنه، قال - تعالى -: ( قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف: 92. وهكذا طوى الإخوة صفحة الماضي الأليمة وعاد إليهم التصافي والوداد والوئام والمحبة، وبقيت قصتهم مثالا يحتذى ويقتدى.
3. سياسة المصالحة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -:
من نماذج المصالحة في الخطاب القرآني تسجيله لسياسة المصالحة التي كانت خيارا استراتيجيا للنبي- صلى الله عليه وسلم - في حياته ودعوته والتي تجلت في عدة مواقف منها:
المصالحة التاريخية التي أنجزها النبي- صلى الله عليه وسلم -في المدينة المنورة بعد الهجرة بين المسلمين فيما بينهم وبين المسلمين وغيرهم من خلال كتابة الوثيقة (الدستور)، ومن خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي أشاد الله - سبحانه وتعالى- بها وبأطرافها، فقال - تعالى -: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9.
وقال أيضا: ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة: 100.
ومنها هدنة الصلح التي وقع النبي- صلى الله عليه وسلم - مع كفار قريش في الحديبية رغم الشروط القاسية والتي أشاد بها الخطاب القرآني واعتبرها فتحاً مبيناً حيث أنزل فيها قوله - تعالى -: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) الفتح: 1.
ومنها العفو العام الذي أصدره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق قريش يوم فتح مكة الذي أشاد به الخطاب القرآني، فقال - عز وجل -: ( إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) النصر: كلها.
المطلب الرابع: آليات وكيفية تطبيق المصالحة عملياً:
دعا القرآن الكريم إلى الكثير من المبادئ والأخلاق والتشريعات لتحقيق المصالحة عملياً على أرض الواقع، نكتفي بذكر أهمها: (7)
* التسامح: يعتبر التسامح في الخطاب القرآني الوسيلة المثلى لتحقيق المصالحة، قال - تعالى -: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34. وقال أيضا: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63].
* العفو والصفح: فإنهما من أهم الطرق المفضية إلى تحقيق المصالحة وقد جاء الحث عليها في الكثير من الآيات منها:
- قوله - تعالى -: (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة: 237].
- قوله - تعالى -: (الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران: 134].
- قوله - تعالى-: ( فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة: 109].
- قوله - تعالى -: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور: 24].
العدل والإحسان: قال - تعالى -: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83]، وقال أيضا: (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195]، أما العدل فيقول - عز وجل -: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل: 90].
* الشورى:
يقول - عز وجل -: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى: 35].
* الأخوة الإيمانية:
إنها من أهم طرق تحقيق المصالحة قال - عز وجل -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
* الوحدة الإنسانية:
إن الله - عز وجل - جعل الناس سواسية في إنسانيتهم وكرم جميعهم بالعقل فهم من أب واحد وأم واحدة، كلهم لآدم وآدم من تراب، وهذه من المبادئ التي تخدم المصالحة بين الناس وتجعلهم يقبلون على حب بعضهم بعضا، مؤمنون بأن رابطة الإنسانية تشدهم إلى بعضهم بعضاً، قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13").
* الاعتراف بالآخر والتواصل وقبول الحوار معه:
لتحقيق المصالحة مع غير المسلمين دعا الخطاب القرآني إلى الاعتراف بالأخر والتواصل معه، قال - تعالى -: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256]، وقال أيضاً: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99]، وقال أيضا: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 8-9].
المطلب الرابع: المرامي المقاصدية لخطاب المصالحة في القرآن الكريم: (8)
أن الخطاب القرآني اهتم بالدعوة إلى المصالحة من أجل تحقيق أهداف وأبعاد مقاصدية وحضارية كبرى تتمثل فيما يلي:
.1 البعد الديني:
ويتمثل في حفظ الدين والتمكين له
.2البعد الاجتماعي:
ويتمثل في حفظ النسل والحفاظ على كيان المجتمع
3. البعد الاقتصادي:
ويتمثل في حفظ المال من التلف والضياع وتنميته بالحركة والعمل والإنجاز والاستثمار.
4. البعد السياسي:
ويتمثل في صيانة كرامة الأمة وكيانها السياسي، وحماية وحدتها وضمان استقرار مؤسساتها وفاعلية نشاطها مما يجعلها قوية مهابة بين الأمم.
5. البعد الثقافي:
ويتمثل في الحفاظ على العقل واستخدامه في التفكير السليم السوي وذلك بتوجيه اهتمام الناس إلى العلم والتعلم، وإلى البحث والإبداع العلمي والفكري والثقافي.
6. البعد الإنساني العالمي:
ويتمثل في مد جسور التواصل والتعارف والتثاقف بين الشعوب والثقافات والحضارات، وإقامة حضارة إنسانية راشدة تختفي فيها النزاعات ويتحقق فيها التقدم العلمي والتقني والرفاه الاجتماعي والمادي والأدبي.
المطلب الخامس: أهمية إصلاح ذات البين ودور المجتمع ومؤسساته في تحقيقها وأساليب الإصلاح وبيان مواصفات المصلح الناجح:
الفرع الأول: أهمية إصلاح ذات البين: تظهر أهمية إصلاح ذات البين فيما يلي: (9)
1- تخفيف العبء عن القضاء:
قد يتم الصلح بين الخصوم قبل رفع الدعوى أمام القضاء، وهذا العمل يخفف العبء عن العاملين في مجال القضاء الرسمي.
2- تخفيف العبء عن الخصوم:
إن إنهاء النزاع بين الخصوم صلحاً فيه تخفيف كبير عنهم، وذلك من خلال إجراءات الترافع بجلسة أو جلستين وسهولتها وإنهائها، أما ما يجري في المحاكم فيها كثير من التعقيد والمشقة كما أنها تستغرق وقتاً وجهداً وتكاليف باهظة وفي هذا مشقة وتعب واستنزاف لجهودهم، وأموالهم.
3- تحقيق العدالة:
إن حسم الخلاف بين طرفي النزاع عن طريق الصلح أدعى إلى الإنصاف وأدنى إلى تحقيق العدالة، حيث إن المتخاصمين أعلم من غيرهم بمعرفة استحقاق كل منهم فيما يدعيه، أو فيما يدعي عليه، لأن كلا منهما يعلم في قرارة نفسه أين الحق، ولمن هو الحق المتنازع عليه.
4- نشر الوعي الاجتماعي:
ذلك أنه يستأصل شأفة الخصومة ويؤلف القلوب المتنافرة، ويضع حداً لما تتركه الخصومات من أحقاد في النفوس، وضغناء في الصدور.
5- إشاعة السلام بين أفراد المجتمع:
عندما يصطلح الناس، وتزال العداوات والمخاصمات فيما بينهم، ويحل الوفاق محل الخلاف، عند ذلك يأمن الناس بعضهم بعضاً، ويحلّ السلام الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
6- تأليف القلوب:
لاشك أن الخصام يفرق المتاحبين، ويعمق بينهم العداوة والخلاف، وتتنافر القلوب وتتباغض، فعندما يتم الإصلاح والتصالح على أسس العدل، وقيم القسط وإحقاق الحقوق والتصافح، والتغافر والتراحم، تتآلف القلوب.
الفرع الثاني: دور المجتمع ومؤسساته في إصلاح ذات البين: (10)
أ- الأسرة:
فالبيت إن أحسن فيه تربية الأبناء، فإن المجتمع الكبير سيستقبل الأعضاء الذين يحسنون إدارة وتوجيه دفة الحكم، فالبيت يتعلم فيه الكبير والصغير دروساً في الحب أو الكراهية، وعندما يكون الأب قدوة في البيت فلا خصام في داخل الأسرة ولا شجار خارج البيت وإنما يعيش كل فرد من أفراد الأسرة في جو متسامح يتسم بالعفو عمن ظلمه وينبذ الخلاف ويكره الشقاق.
ب- المجتمع:
تتجدد مسؤولية المجتمع عند تربية أبنائه وتوجيهها إلى الخير أو الشر فهو الوسط الذي ينشأ فيه الأفراد ومن خلال تعاملهم مع بعضهم بعضاً يؤثرون ويتأثرون سلباً وإيجاباً، لذلك فهو يؤثر على جميع الأفراد والجماعات المكونة لهذا المجتمع.
ج- المسجد:
فالمسجد مكان لإقامة المحاضرات والندوات والدروس العلمية والمواعظ الإيمانية التي تدعو الناس إلى التحابب وسلامة الصدور، وإصلاح ذات البين وكل ذلك من خلال كلام الله - تعالى -، ومن خلال كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفعله وفعل أصحابه واتباعه من أهل الفضل والكرم - رضي الله عنهم - جميعاً.
د: دور المؤسسات التربوية في إرساء دعائم إصلاح ذات البين: (11)
- المنهج:
فالتعليم عمود النهضة وعمادها وذخر أي أمة وسندها، فالأمة الإسلامية أمة العلم والتعلم إذ هي التي بدأ كتابها السماوي "القرآن الكريم" بكلمة "اقرأ" في أول ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالمنهج يغرس في المتعلم العلم والخلق والسلوك والإخلاص والأمانة.
- المعلم:
يعتبر الأساس، بل هو الدعامة الأساسية لبناء المجتمع وتقدمه، فشخصية المعلم لها أثر عظيم في عقول التلاميذ ونفوسهم، وذلك لأنه يؤثر بمظهره وشكله وتعامله وحبه وبغضه وكراهيته وسلوكه الذي يبدو منه، وما أجمل المعلم حين يغرس في قلوب أبنائه روح المحبة والتسامح والعفو والصفح، ولين الجانب، ونكران الذات، ونبذ الخلاف والشقاق والنزاع والحسد والبغض والحقد والانتقام.
ج- المدرسة:
من أخطر المؤسسات التربوية التي يقضي فيها الفرد شطراً كبيراً من عمره، وهي المحيط المناسب لتوعية الطلاب بأهمية إصلاح ذات البين ومعرفة طرق وأساليب حل الخصومات عبر الحلول الإرضائية التي تمارس في المدرسة عند حدوث أي خصام بين الطلاب، فتحل مشكلتهم عن طريق الصلح، فالمدرسة هي الركيزة الأساس لتنمية القيم والأخلاق الإسلامية، ونشر ثقافة الحب والتسامح والتواضع والعطف على الآخرين والرحمة في الآخرين والتنازل عمن أساء وتجاوز حد الأدب، فالمدرسة تعمل على تعميق وغرس القيم والمعايير والتصورات والعقائد في الفرد والمجتمع وتحويلها إلى سلوك عملي في الواقع، وتكون بذلك عملية فريدة ومتميزة، ومقصده صياغة وتشكيل العقل والوجدان والنفس وتحديد المواقف الكلية.
هـ: دور الإعلام:
وسائل إصلاح ذات البين كثيرة منها الشفهية والسمعية والبصرية، أو المقروءة وتشمل كلًّا من الاتصال الفردي والخطبة والمحاضرة والندوة والمذياع والشريط المسموع والمسرح والتلفزيون، والكتاب والصحيفة والمجلة والإنترنت وأجهزة الاتصال وغيرها ولو استخدمت هذه الوسائل بحق لعاش الناس في حب وإخاء وتآلف، ولضاق الخصام والشجار على مستوى الأفراد والجماعات والقبائل والدول.
الإعلام بوسائله المقروءة والمسموعة والبصرية وغيرها له تأثير كبير على النمو المعرفي والانفعالي والاجتماعي للشعوب يزداد تعاظمها وأهميتها في مجتمعنا الحديث خاصة، فما من بيت يخلو من إحدى هذه الوسائل كالمذياع والتلفاز، والصحيفة والشريط، فهذه الوسائل تعمل على التوجيه وحفظ مقومات الأمة وثباتها أمام التيارات المختلفة، وفي تحصين الفرد والجماعة.
إن لهذه الوسائل دوراً كبيراً في تعزيز التسامح ونبذ العنف من خلال استضافة عالم، أو داعية يتحدث عن أهمية إصلاح ذات البين ويبين خطورة الخصومة ومضارها على الفرد والمجتمع.
الفرع الثالث: أساليب عملية لإصلاح ذات البين: (12)
1- المكاشفة: الموضوعية:
هؤلاء الصحابة عندما اختلفوا في أمر الخلافة، كان الأنصار يرون أنهم أحق بها من غيرهم، لأن الخلافة تركت دون تبيين من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فليس هناك نص قاطع من الكتاب والسنة ينتهي الناس إليه ويحتكمون به، وهنا لم يبق إلا التحلي بالحكمة والحنكة وآداب الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ المؤدي لأنبل المشاعر وأفضلها لدى الطرفين، بالتجاوز واحتواء الأزمة، والخروج منها إلى برّ الأمان، فكانت المكاشفة بين المهاجرين والأنصار، فقد تكلم خطيب الأنصار، ثم أبو بكر الصديق وبما قاله - رضي الله عنه -: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأشاد بهم وبما قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج الأمر من الإطار الذي وضعه خطيب الأنصار فيه، فالأمر ليس مقصوراً على المدينة وحدها فالجزيرة اليوم تستظل بظل الإسلام وإن كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا لإخوانهم الأنصار بالخلافة ويعرفوا فضلهم، فإن بقية العرب لن تسلم لغير قريش، فبين لهم الأمر بهذا الخطاب الواضح حتى يسلموا الأمر لإخوانهم من قريش.
2- الاسترضاء:
قد يكون للطرف الآخر شكوى منطقية، وحق يطالبك به، فما عليك إلا الاعتراف بهذا الحق وإرجاعه ما أمكن، ثم استرضاؤه، لينتهي النزاع ولا يطول بقول فولتير: النزاع الطويل يعني أن كلًّا من الطرفين على خطأ.
وقد استرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وعرض نفسه للقصاص قائلاً: "من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه"- فهذا استرضاء منه وطلب للعفو والمسامحة في الدنيا قبل الآخرة.
3- المصارحة والمواجهة الهادئة:
اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصفح والعفو وامتثالاً لقوله - تعالى -: ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ) (الشّورى: 40). فقد واجه من قومه كل أنواع الأذى هو وأصحابه من رمي بالحجارة والسخرية والاستهزاء، وما حادثة الطائف إلا خير دليل على رحمته وتسامحه، فقد جاء ملك الجبال، يريد أن يطبق عليهم الأخشبين فقال - صلى الله عليه وسلم -: (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله - عز وجل - لا يشرك به شيئاً)).
دعا لهم بالمغفرة من قلبه الطاهر فقال: (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))، بل زيادة على ما ذكر فإنه كان يحاور أعداءه بلين الجانب والهدوء التام في حواراته وخطاباته، فهذا عتبة بن ربيعة والذي كان سيداً من سادات قومه طلب من قومه أن يكلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعرض عليه أموراً، فأذنوا، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس، وبدأ بالحديث مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( قل يا أبا الوليد، والتفت إليه بهدوء تام، حتى انتهى من كلامه، ثم قال له: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم))، فهذه أخلاقه مع خصومه وأعدائه ومنه نتعلم كيف نواجه الخصم بهدوء تام، وقوة تحكم في المشاعر والأحاسيس وقسمات الوجه وتعبيراته، وعدم الانفعال والغضب، بل علمنا كيف نحاور خصومنا بهدوء، ونستمع إليهم بإنصات حتى إذا انتهوا من كلامهم نبدأ بتوضيح فكرتنا وبيان خطئهم، وصولاً إلى إقناعهم بخطأ فكرتهم أو خطأ سلوكهم، ثم طلبهم بعدم التكرار لمثل هذه الأعمال غير المرغوبة مع إخبار الخصم إذا اقتنع بخطأ ما أقدم عليه.
الفرع الخامس: صفات المصلح القائم بإصلاح ذات البين: (13)
1- مواصفات شخصية:
أ- الإخلاص:
على الساعي لإصلاح ذات البين أن يجعل عمله خالصاً لله –عز وجل- مبتغياً من الله الأجر والثواب، قال الله - تعالى -: (( وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَآء مَرْضَتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) (النِّساء: 114).
فلا يقصد بعمله شكراً من أحد ولا تحصيل جاه، أو شهرة، أو سمعة، فإن المصلح إنما يكون مقبولاً عند المتخاصمين إذا شعروا بإخلاصه لله - عز وجل - في سعيه لإصلاح ذات البين وكذلك إخلاصه في حل القضية وإيصال الخصوم إلى حلّ مرضٍ ولابد أن يستشعر المصلح قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( إن الله - تعالى -لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغى به وجهه)).
ب الصبر:
قال - تعالى -: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزُّمَر: 10).
وقد أعلن الله - عز وجل - حبه للصابرين، بقوله: ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّبِرِينَ) (آل عِمرَان: 146).
وهكذا نجد أن منزلة الصبر منزلة عالية لا ينالها إلا المتقون الصادقون، فالصبر سمة من سمات المؤمنين وصفة من صفاتهم اللازمة لهم.
ج- الحكمة:
والحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، ولا يسمى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بين العلم والعمل به، وقيل: الحكمة وضع كل شيء في موضعه وقيل سرعان الجواب مع الإصابة، فالمصلح الحكيم هو الذي ينظر في القضايا المعروضة عليه ببصيرة ثاقبة ويوفق بين الآراء ويقرب بين الأطراف ويتريث ويتأنى، فلا يعجل في إصدار الأحكام والحكمة تقوم على ثلاثة أركان هي: العلم والحلم والأناة، وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهل، ولا طائش ولا عجول، فالمصلح لابد أن يتمتع بسعة الصدر، والقدرة على احتواء المواقف وحسن الاستماع إلى المتخاصمين، والتمكن من تهدئة المواقف، ليصل المصلح إلى إطفاء جذوة الخلاف وإزالة أسباب الخصومة وإجلال المصافاة والمسالمة كما ينبغي على المصلح أن يكون له معرفة في الدين والفقه في التأويل وسجية تعينه على الفهم.
د- الصدق:
قال - تعالى -: ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّدِقِينَ) (التّوبَة: 119).
القائم على إصلاح ذات البين لابد أن يتصف بهذه الصفة حتى يقبل قوله ويكون أهلاً لثقة الناس بهم، ويحصل الصلح بواسطته وعل المصلحين أن يفهموا أن ما يصدر منهم من حلول لقضايا الناس لا يقبل ولا يستقر في القلوب إلا إذا كان المصلح خالصاً في نيته، صادقاً في لهجته، ولا يراعي إلا الله في عمله، فإن صدق المصلح في الإصلاح، جعل الله على يديه الوفاق والاتفاق وإنهاء الخصام، فالمصلح عندما يبتغي بصلحه رضى الله ثم رضى الخصمين، فهذا أجلّ الصلح وأحقه، وهو يعتمد على العلم والعدل فيكون المصلح عالماً بالوقائع، عارفاً بالواجب قاصداً للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم.
هـ- المبادرة:
لابد لأهل الخير والصلاح أن يبادروا لإنهاء الخصومات والعداوات التي تحصل بين أفراد المجتمع حتى يكون متماسكاً بعيداً عن الخلافات والنزاعات قال - تعالى -: (وَلاَ تَنَزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفَال: 46).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول المبادرين لإنهاء الخصومات بين أصحابه، فها هو يأمر أصحابه بقوله: (( اذهبوا بنا نصلح بينهم)).
وذكر ابن القيم عن عبد الله بن حبيب ابن أبي ثابت، قال: كنت جالساً مع محمد بن كعب القرظي، فأتاه رجل، فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين القوم، فقال محمد بن كعب: أصبت لك مثل أجر المجاهدين، ثم قرأ: ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النِّساء: 114).
و- التواضع:
على القائمين بإصلاح ذات البين أن يتصفوا بصفة التواضع، وخفض الجناح، ولين الجانب مع المتخاصمين ومع كل من له علاقة بالقضية المعروضة عليه، فكما أنه يجب أن يكون قوياً في غير عنف، يجب أن يكون متواضعاً في غير ضعف ليكسب القلوب، فيسعى الجميع لقبول قوله وحكمه، قال - تعالى -: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحِجر: 88).
ز- الجود والكرم:
اشتهر عن العرب بذلهم المال لإصلاح ذات البين فهذا هرم بن سنان والحارث بن عوف سيد بني مرة اللذان حقنا دماء قبيلتي عبس وذبيان بعد حرب طويلة، إذ يتحملا ديات القتلى، ويقال إنها كانت ثلاثة آلاف بعير وقد جاء الإسلام فأقرَّ تلك المحامد والخصال الكريمة والأفعال النبيلة فشرع في مصارف الزكاة حقاً لقضاء المغارم التي دفعت للخصومات والمنازعات وإنهاء القتل والاقتتال.
الفرع السادس: مواصفات علمية وعقلية للقائم بإصلاح ذات البين: (15)
1 - العلم:
العلم من أعظم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المصلح وأن يؤهل نفسه به، والمقصود بالعلم هنا هو علم الشريعة التي أنزلها الله –عز وجل- لإقامة العدل والكف عن الظلم، والساعي لإصلاح ذات البين ينبغي أن يكون لديه علم بالشريعة.
2- العدل:
العدل صفة ربانية كتبها الله على نفسه وأوجبها على عباده بقوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النِّساء: 58).
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ليست من الشريعة.
فالمصلح حتى يوفق في إزالة الشقاق وإحلال الوفاق، لابد أن يعدل بين المتخاصمين ويصلح بينهما بالعدل، قال - تعالى -: ( فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحُجرَات: 9).
والإصلاح هنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: "بِالْعَدْلِ" فكأنه قال: واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما.
والغرض من إصلاح ذات البين إيصال العدل والذي رغب فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبيَّن فضيلته بقوله: (( كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة)).
يقول ابن القيم: الصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله –عز وجل- ورضى الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه وهو يعتمد على العلم والعدل فيكون المصلح عالماً بالواقع، عارفاً بالواجب قاصداً العدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم.
3- رجاحة العقل:
بالعقل يعرف الإنسان حقائق الأمور، ويفصل بين الحسنات والسيئات، ومن خلال العقل تزداد المعرفة وتتضح الفكرة ويبين الحق، فالعقل ينمو إن استعمل وينقص إن أهمل، فالمصلح يعمل في العادة عقله وفكره لاستنباط الحلول المناسبة المرضية للخصمين، والله يدعونا للتدبر والتفكر والتأمل، قال - تعالى -: ( كِتَبٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْباَبِ) ص: 29] وليتعظ بالقرآن أولو العقول، وأولو الألباب أصحاب العقول الراجحة الذين يدركون الأمور على حقيقتها ويعرفون العواقب جراء إهمال إصلاح ذات البين، فعليهم أن يقوموا بإصلاح ذات البين على أكمل وجه، فهذا واجب العقلاء من الناس ومسؤوليتهم على إنجاح حل القضايا وإنهاء الخصومات بأسرع وقت ممكن وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بعقل الإنسان أيما اهتمام وأعطته قدراً وافراً من الرعاية وأحاطته بما يوفر له القيام بوظائفه.
4- القدرة على التركيز:
لابد للمصلح أن يكون قوي الذاكرة يتذكر المواقف المختلفة بين الخصوم ويذكر أسماء المتخاصمين، ونوع قضاياهم، وأن يكون ملماً بكل قضية، يعرف أطراف النزاع ومحل النزاع، ونوع النزاع، حتى تكون الصورة واضحة للقضية التي تطرح عليه فهو يعرف أسبابها وكيف حصلت، ولديه جميع المعلومات حتى يتمكن من الحلول. (17 )
خاتمة: تتضمن أهم النتائج والتوصيات:
1 - أن الخطاب القرآني يولي اهتماما وعناية قصوى للدعوة إلى المصالحة ويرسم الطريق لتحقيقها ويطلب من المؤمنين به أن يجعلوها العملة التي يتعاملون بها في حياتهم حتى يستقر لهم دينهم وتستقيم حياتهم وتعمر بالخير والصلاح.
2 التأكيد على الإسراع بتحقيق المصالحة وإنهاء العنف ووضع حد للدماء التي تسيل في بعض أرجاء العالم الإسلامي، ولقد أصبحت المصالحة في هذا العصر ضرورة دينية ووطنية. ولكن ذلك وفق ضوابط وشروط حددتها الشريعة الإسلامية، ومنها: عدم جواز المصالحة مع من تلوثت أيديهم بالدماء، ومن صدرت ضدهم أحكام قضائية في جرائم القتل والعنف وتخريب الممتلكات العامة والخاصة. وينبغي توعية جميع فعاليات المجتمع المدني والقوى السياسية ومؤسسات الدول بالإسراع في تشريع القوانين والمواثيق لتحقيق المصالحة الوطنية ولم الشمل لبناء الدول الإسلامية حتى يتحقق الأمن والأمان والاستقرار للوطن والمواطنين، ولنا في تجرية الجزائر ممثلة في ميثاق السلم والمصالحة الوطنية المستمد من خطاب المصالحة في القرآن الكريم، أحسن مثال حقق نتائج جد إيجابية
في تحقيق السلم والاستقرار الاجتماعي.
3 ضرورة إدراج خطاب المصالحة في القرآن الكريم في المنظومة التربوية وتدريسه في جميع أطوارها، بالإضافة إلى غرس المفاهيم الإسلامية المتعلقة بالتسامح وثقافة السلم والوسطية والاعتدال وحقوق الإنسان والحريات العامة لدى عقول الشاب المسلم