وأن الأمة مهما أنهكتها الجراح لن ينطفىء نورها، ولن ينقطع خيرها، وستظل دائرة مع الإسلام حيث دار، وأنها رغم كل آلام الانكسار فإنها قطعًا تتأهب لانتصار، وما على الأمة إلا أن تؤهل نفسها لاستحقاقه، وكما جاء في الحيث: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ "، قِيلَ: وَمَا اسْتَعْمَلَهُ؟ قَالَ: " يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ ،" فواجب أبنائها اليوم أن يتأهل كل فرد منهم لاستحقاق الاستعمال، ويعد نفسه للاستخدام، ويتخلص من تلك العلائق التي يربط بها نفسه، ويعلق بها قلبه، ويبرر بها تفريطه وتخاذله، فحساب الله تعالى للبشر موقوف على فعلهم، ومرهون بصنيعهم .
لذا ففي هذه المرحلة التي ازداد فيها الفرز، وحمي فيها الوطيس، واشتدت فيها المحنة، لاينبغي لأحد أن يلتفت حوله، ولكن عليه أن يؤهل نفسه لهذا الاستحقاق، في معركة محسومة نتائجها، مضمونة عواقبها ، لمن أعد لها بما استطاع عدتها، وتأهب ليكون يوم اللقاء حسامها، ويوم النصر حامل لوائها.
واستحقاق الاستخدام يتمثل في التأهب النفسي لصلاحية الاستعمال، فالدفاع عن الإسلام منحة من الله لمن أحبهم، والوقوف في خندق الحق مقام ليس كل النفوس تُكرم به، "وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم".
ويتمثل هذا التأهب في علاقة خاصة بالله تعالى تثمر سداداً في الرأي، وصوابية في المنطق، وقوة في التأثير، ووفرة في التوفيق.
فإن لم يكن قد أعد من نفسه عدتها فماذا عساه أن يجد إلا الحرمان من شرف الاستعمال، قال تعالى : "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ". (سورة التوبة).
فالتَولي من الزحف لم يكن ظاهرة بدت حين حمى الوطيس، ولكنها علل في النفوس قديمة، وأمراض في القلوب دفينة، وعوج في الطباع لم يكن الطبيب به خبيراً، وخلل في الفكر لم يكن له من الوعي نصيباً.
فكانت نار المحنة اختبارها، وزلزلة اللقاء ابتلاؤها، وعاقبة ذلك افتضاحها، "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ" (سورة محمد) .
ومن أدوات الاستحقاق أن يُعد كل فرد في الأمة نفسه لتلك المعركة بتملك الأدوات المتاحة على وجه الوجوب والإلزام ، فالله تعالى يحاسب المقصرين المفرطين كما يحاسب المعتدين الظالمين.
والتأهب لاستحقاق الاستخدام يتطلب صلة بالله وثيقة، تؤهل صاحبها لهذا المقام، وقاعدتها قول الله تعالى: "فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" (سورة الفتح).
ويتطلب كذلك أن ينطلق كل فرد في التخصص الذي يجيده، ليحقق فيه للأمة أعلى النجاحات وأرفع الدرجات ، ويساهم من خلاله في رفعتها، والنهوض من كبوتها.
فيقيناً ستنجلي هذه المحنة يوماً ما ، وسُتكمل أجيال الأمة قواعد كل بناء صحيح، وستشرب من كل نبع نقي، وستُحيي كل أرض حافظنا لهم على خصوبتها، وستشكر كل من مهد لها سبيلاً ساهم في نجاتها، أو شق لها وادياً ساهم في ريها، أو غرس في نفسها قيمة ساهمت في حفظ هويتها، أو فتح لها نوافذ أمل كانت سبباً في طرد اليأس من قلبها.
فالتوقف عن غرس أخر فسيلة خير في يدك جريمة، والبكاء على الماضي الأليم فحسب رعونة، والاستسلام لداعي اليأس والقنوط كفر، والعيش في كنف الأوهام جنون،
فمهما خسر الإنسان في حياته فالخسارة الحقيقية لم تأت بعد، ومهما نجح في حياته واكتسب فالفرح الحقيقي لم يأت بعد، وإنما هناك السعادة الحقة، وهناك أيضا كامل الشقاء.
قال تعالى : "فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (آل عمران).
فواجبنا أن نتأهب لفيوضات الخير وسحائب الرحمات، وأبواب الفتوحات ونوافذ الأمل، ولنعلم أن الخطوة الصحيحة بعشرخطوات، والصدق مع الله سبيل كل فلاح .
نقلا عن الجزيرة مباشر