فرض التأمل نفسه على رأسي، وفرض أيضا على خيالي مشاهد غير مترابطة من موضوعات كنت قد نسيتها
وفى مشاهد غير متتابعة ومتداخله قفز إلى ذهني ثورة 2011 والمجلس العسكري وصورة أحد الجنرالات وهو يؤدي التحية العسكرية للشهداء، ومشاهد مؤلمة لشهداء في 2011 وفي محمد محمود وفي ماسبيرو وفي رابعة والنهضة، وأمام مسجد مصطفى محمود، ومشاهد الاحتجاجات الفئوية، والهوجة الشبابية ضد من هم دون الشباب والثورة على النخبة، وطردهم من الميادين والسلفيين والقوى المدنية والإخوان، والأمريكان والإعلام وعكاشة وهو يقود مظاهرة في القصر العينى، وثوار أصبحوا سلطة وسلطويون أصبحوا ثوارًا.
وفجأة سخن دماغي وأصبت بغفوة دماغية ليست الأولى، وغالبا ما يعقبها الانتقال إلى مشاهد مغايرة تمامًا للمشاهد السابقة، وكأن رأسي يتعمد أن يركن للراحة فيفصل عقلي، وينقله إلى موضوع خفيف ترفيهي يخفف عنه الحمل الزائد، فوجدت نفسى فى مشهد ليس به سوى حمار بائس يقود عددًا من الحمير الأكثر بؤساً، وهو يتودد لي طالبا الصداقة والحوار، فاستجبت وقلت له "احكِ، فضفض"، فقال لى "سأحكي لك حكاية جدي الحمار الثائر، والذى اقتبس حكايته بيدبا الفيلسوف الهندى ليجعلها إحدى حكايات كتابه "كليلة ودمنة" الذى تقرب به من "دبشليم" الملك، واتقى شره وبطشه"، فاسترخيت وأنا كلي آذان مصغية لكلماته وحكيه.
قال صديقى الحمار: "جدي الأكبر كان يعيش فى غابة يحكمها عائلة من الجنرلات الأسود، توارثت الحكم أجيالا وراء أجيال ويعاونه ثعلب مكار، وكان جدي الحمار به مسحة من تمرد ونزعة ثائرة، فكان يرى أن الشعب من أبناء الغابة يحق له الحكم، وتداول السلطة، ولكنه كان يرى أن التغيير بالإصلاح من خلال النظام القائم، ولهذا لم تراوده فكرة تغيير سلسال الجنرالات الأسود الحكام، فقد كان مدركا بوعى أنه مجرد حمار".
وفى يوم زأر الأسد ونادى بغضب على الثعلب المكار، الذي كان يشغل منصب المستشار الإعلامي للأسد والمتحدث الرسمي باسمه، وقال له "أريد أن آكل أحدًا من الغابة، ولابد أن يكون سمينا به من اللحم ما يسد رمقي، وإلا أكلتك أنت أيها المكير".
كان المكار يعلم حالة الحمار الثائر، ورغبته فى القفز السلمي على الحكم، فذهب إليه وقال له موسوساً: "الأسد يريد حاكمًا للغابة ليتفرغ هو للزعامة العامة والفصل بين السلطات وحماية التجربة الديمقراطية فى الغابة"، فرح الحمار وتهيأ وذهب برفقة الثعلب للأسد الذى استقبله بترحاب، وما أن انحنى الحمار حتى قفز الأسد على رأسه، فقضم أذنه وهرب الحمار فزعًا، وكانت التجربة الأولى، ونجا منها الحمار. ثار الأسد على الثعلب وطالبه بإعادة الحمار وإلا سيأكله هو.
ذهب الثعلب للحمار الذى هاجمه بشده، واتهمه بالخيانة والتواطؤ من أجل تسليمه للأسد ليأكله، وظل الثعلب صامتًا ونظر للحمار، وعينه مملؤة بالدموع وقال له "سامحك الله يا أخى لقد ظلمتني وأنت لا تعلم ما بداخلي من إيمان بمبادئك الثورية العظيمة، وما حدث من الأسد من قضم أذنك ما كان إلا تمهيدا لوضع التاج على رأسك الكريم، وكان الأسد مدركًا أن أذنيك الكبيرتين ستعيقان التاج، فقرر أن يخلصك من إحداهما حتى لا تفقد كرسي الحاكم". بكى الحمار وأحس بالندم وارتمى فى أحضان الثعلب، واعتذر له ورجاه أن يعيد الكرة، واصطحبه الثعلب للأسد بعد أن تمنع قليلا.
التقى الحمار بالأسد وانحنى له معتذرًا، ثم أدار نفسه ناحية الثعلب ليشكره، فانقض الأسد عليه ليأكله وقضم ذيله، فهرب الحمار فزعًا، وكانت التجربة الثانية ونجا منها الحمار بأعجوبة، زأر الأسد واختبأ الثعلب وراء الشجرة، وقال للأسد "لا تجزع ولا تغضب سأحضره لك، ولكني أعاتبك لأنك لا تنقض عليه سريعا".
ذهب الثعلب للحمار وعلى وجهة مسحة من غضب وعتاب، وهاجم الحمار: "مالى أراك غبيًا، أنت لا تستحق أن تكون حاكمًا للغابة، لماذا فررت أيها الغبي، وجعلت الأسد يفكر فى غيرك للحكم"، نهق جدى الحمار وقال له: "كان سيأكلنى أيها الخائن"، سأله المكير: "ومن أين أتى لك أنه سيأكلك؟"، رد جدي الحمار: "قضم ذيلى يا ملعون"، صرخ المكار وقال: "يالك من حمار ثائر غبي، عندما استدرت أيها الغبى لمح الأسد ذيلك، فأدرك أنه سيمنعك من الجلوس على كرسي العرش فقضمه، حتى تستطيع الجلوس على العرش، أنت يا حمار غبي ولا تستحق الحكم، سأذهب للنعجة هى أولى بالحكم منك"، لحقه الحمار وقبل رأسه وقدمه ورجاه أن يعيد الكرة، وتمنع الثعلب ثم وافق أخيرا، واصطحب الحمار للأسد الذى ما إن رأى الحمار حتى احتضنه فى مشهد عاطفى وأكله.
وفى الليل طلب الأسد من الثعلب أكلة خفيفة ليتعشى بها، فذهب الثعلب للديك ليطلبه مؤذنًا للملك، وكان الديك قد علم ما حدث للحمار، فقال للثعلب "أتريد أن يلحقني مصير الحمار"، قال الثعلب "ولكنه حمار وأنت ديك"، فرفض الديك ومشى الثعلب، وهو يجر أذيال الخيبة، فسأل الفرخ ابن الديك أباه "لم لا تصدقه وكانت دموع عينه تدل على صدقه؟"، أجاب الديك "يابنى ألم تقرأ قول أمير الشعراء "مخطئ من ظن يومًا أن للثعلب دينًا".
وما إن انتهى الحمار من حكايته الشيقة حتى بادرته بسؤال: "كيف نجا جدك من الفخ مرتين، ولم يلتفت، وذهب إليه للمرة الثالثة ووقع فيه وهو مؤمن؟، وجميعنا يعلم أنه لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين !!"، رد الحمار "نعم ولكنه كان حمارا.
نقلا عن الجزيرة مباشر