ليس الهدف من الضربة الأمريكية المحدودة لمطار الشعيرات الثأر لضحايا الهجوم الكيماوي على خان شيخون.
فالسياسة الأمريكية لا تعرف الأبعاد الإنسانية في تحركاتها العسكرية بالمنطقة العربية، وسلاح الجو الأمريكي دمر الموصل وهجّر مليون مسلم سني دون أي شعور بالأسف، بل إن خسائر أي ضربة بالصواريخ الأمريكية التقليدية في أحياء الموصل تفوق في خسائرها ما نتج عن ضربة بشار الكيماوية.
التحرك العسكري الأمريكي له أسباب أخرى مرتبطة بالأمن القومي الأمريكي وأمن الكيان الصهيوني، منها تحسين صورة دونالد ترامب المهزوزة في الداخل الأمريكي، وتوجيه لكمة محسوبة للروس في سوريا تعيد الهيبة للولايات المتحدة وتغير التوازنات المتعلقة بالملف السوري.
رغم حرص الأمريكيين على تقليل الخسائر العسكرية للضربة وعدم التصعيد، حيث أبلغوا الروس مسبقا لسحب الأطقم الروسية والسورية من مكان القصف فإن هذه الخطوة العسكرية تشير إلى أن كل الاحتمالات واردة، وأن الطرفين قد يحترقا مكرهين في حرب يحاول كل منهما تجنبها، بسبب أي خطأ منهما أو بفخ من طرف ثالث.
والزاوية الجديرة بالتأمل بجانب الصراع الدولي المشتعل هي أن استخدام الغازات السامة وأسلحة الدمار الشامل ضد الشعب السوري جاء بعد فشل بشار والجيوش المتحالفة معه في حسم المعارك بالأسلحة التقليدية الحديثة؛ فالروس بكل ما يملكون من طائرات وأسلحة متطورة لم يغيروا الخريطة على الأرض، والإيرانيون وميليشيات الشيعة وحزب الله في حالة عجز عن تحقيق أي انتصار استراتيجي يحسم الصراع لصالحهم.
لقد أثبت الشعب السوري الصامد والمقاوم أنه هو الثابت في سوريا بينما كل القوة العالمية والإقليمية المنخرطة في الصراع متغيرة، يدفع بعضها بعضا، ووسط دوي القنابل والقصف بالطائرات وصواريخ توماهوك وكاليبر فإن التحالفات ستتغير والولاءات ستتبدل وستتسع حفرة النار شيئا فشيئا لتحرق من أشعلوها.
رغم ما يبدو من صورة سوداوية ومذابح مأساوية فإن التاريخ يكرر نفسه، والتجارب تستنسخ بعضها، وحتى لا تسيطر علينا حالة اليأس التي تحاول القوى العالمية والإقليمية أن تشيعها في الأمة، لإذلالنا ولإضعاف روحنا المعنوية فالتجارب المعاصرة لأمريكا وروسيا اللتين تتصارعان الآن على سوريا تؤكد أن القوة العسكرية مهما كانت باطشة لا تستطيع أن تصمد طويلا أمام شعوب ترفض الاستسلام.
ظلت أمريكا تحارب في فيتنام 20 عاما (1955إلى 1975)، تقصف المدن وتحرق القرى، وقتلت أكثر من مليون ونصف المليون فيتنامي، وألقت على هذه الدولة الصغيرة ضعف القنابل التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية، ولكن في النهاية خسرت أمريكا الحرب وخرجت من فيتنام.
كانت فيتنام مستعمرة فرنسية، احتلتها اليابان في الحرب العالمية الثانية، وأعلن الثوار الفيتناميون بقيادة الزعيم "هوشي منه" الاستقلال بعد طرد اليابانيين عام 1945، لكن أمريكا رفضت الاعتراف بالاستقلال وطلبت من الفرنسيين العودة إلى مستعمرتهم، وقدمت لهم الدعم العسكري لمدة 8 سنوات (1946 إلى 1954) إلا أن الثوار استطاعوا هزيمة الفرنسيين وأجبروهم على الانسحاب، فتدخلت الولايات المتحدة بنفسها وتورطت في الحرب التي تواصلت على مدار فترات حكم 4 رؤساء أمريكيين.
في إطار الصراع بين أمريكا والشيوعية خاضت الولايات المتحدة حربها في فيتنام، لمنع الشيوعيين من حكم البلد الآسيوي الصغير تنفيذا لنظرية "الدومينو" التي وضعها مجلس الأمن القومي الأمريكي، ومفادها أن سقوط دولة في جنوب شرق آسيا تحت الهيمنة الشيوعية سوف يتبعه انتشار الشيوعية في الدول المجاورة كسقوط صف من قطع الدومينو.
دفعت الولايات المتحدة بأكثر من نصف مليون عسكري من القوات البرية والجوية، دمروا المدن تدميرا تاما، وقصفوا المستشفيات والمدارس ومرافق المياه والكهرباء والجسور والطرق، وحسب وزارة الدفاع الأمريكية فإن القنابل التي ألقيت على فيتنام بلغت 7 ملايين طن بخلاف الصواريخ، بواقع 285 مليون قنبلة.
استخدمت القوات الأمريكية قنابل النابالم والغازات الكيماوية والبيولوجية، فقتلوا البشر والحيوانات، وأتلفوا المحاصيل، وأضرموا النيران في أكواخ القرويين المصنوعة من القش، ثم أحرقوا الغابات حيث كان يختبئ الثوار، يأكلون منها ويخزنون فيها أسلحتهم، وينصبون فيها الكمائن للقوات الأمريكية، فأطلق الأمريكيون الغازات السامة والكيماويات لقتل كل روح تدب على الأرض داخل هذه الغابات التي تشكل 43% من مساحة البلاد.
استخدم الأمريكيون 15 نوعا من الغازات والمبيدات القاتلة للقضاء على الغابات الفيتنامية، وتم رش الأشجار أكثر من مرة بالأسلحة الكيماوية، وظلت آثار هذه الحرب الكيماوية والبيولوجية على الغابات والبشر لسنوات بعد انتهاء الحرب.
ورغم كل هذا التدمير الجنوني لم تنجح قوات الاحتلال الأمريكي في تحقيق الانتصار واضطرت مكرهة في النهاية إلى الاستسلام والخروج من فيتنام تجر أذيال الهزيمة، وانتصر الشعب الفيتنامي، ليؤكد أن الإنسان المدافع عن وطنه أقوى من التكنولوجيا الفتاكة التي يملكها المحتل الغازي.
وجاءت تجربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان لتؤكد أن القوة العسكرية الطاغية لا تصمد كثيرا أمام شعب مقاوم. لقد ظل السوفييت يدكون أفغانستان بالصواريخ والقنابل لمدة 10 سنوات (1979 إلى 1989) وانتهت المعركة بخسارة الروس وانهار الاتحاد السوفيتي رغم ما يملك من أسلحة.
تدخل الروس عسكريا في هذا البلد المسلم لدعم الحكم الشيوعي وحمايته من ثورة الشعب، واستخدم الروس الأساليب الوحشية في تدمير المدن والقرى، ونفذوا سياسة الأرض المحروقة، وألقوا قنابل النابالم والغازات الكيماوية والسامة لإبادة المدنيين لكسر روح المقاومة لدى الشعب.
لم يتحمل الاتحاد السوفيتي الخسائر العسكرية والاقتصادية للحرب فكانت النهاية التي أدت إلى تفكك هذا الكيان الذي تقاسم زعامة العالم مع أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى التسعينيات من القرن الماضي، ويبدو أن روسيا في ظل بوتين تريد استعادة الإمبراطورية الروسية؛ لكنها بدأت من ذات الباب الذي أسقط من قبله وهو احتلال دولة إسلامية ضعيفة وارتكاب الفظائع ضد شعبها.
من أبلغ الدروس القريبة التي لم تجف دماؤها ما حدث للأمريكيين في العراق طوال 8 سنوات، بعد الغزو وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003 حيث تم استنزاف الجيش الأمريكي، وانهار اقتصاد الولايات المتحدة بسبب تكلفة الحرب التي وصلت إلى 3 تريليون دولار حسب دراسة موثقة لجوزيف ستيجلتس الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، وألحقها بعد ذلك بتصحيح الرقم ليتراوح بين 4 : 5 تريليون دولار.
نتج عن الخسائر العسكرية والاقتصادية استبعاد الإدارة الأمريكية لفكرة النزول على الأرض مرة أخرى أو التورط في حرب برية كبيرة، وما يجري من تدخل أمريكي في العراق وسوريا الآن يغلب عليه الثأر بسبب هذا الانكسار العسكري الذي دمر الحلم الإمبراطوري الأمريكي في بداية الألفية الجديدة، والانتقام من السنة الذين يرفضون الاحتلال ويقاومون الهيمنة الأجنبية.
إيران والشيعة المتحالفون يريدون إخلاء غرب سوريا من السوريين السنة لإقامة دولة شيعية علوية (سوريا المفيدة بتوصيف بشار)، ويكررون مأساة فلسطين، وتتلاقى أحلام الطائفيين مع الروس الذين يريدون تقوية الوجود العسكري في سوريا لينطلقوا منها للتوسع في باقي العالم العربي وإزاحة النفوذ الأمريكي.
الانفصاليون الأكراد يتحالفون مع أمريكا التي تريد الحفاظ على وجودها وترفض ترك سوريا للروس، وتعمل على فصل الشمال السوري لإقامة دويلة كردية تمهيد لتقسيم تركيا.
الروس والأمريكيون يعتمدون على الإيرانيين وميليشيات الشيعة التابعة لها والانفصاليين الأكراد كقوات برية، وهذه الميليشيات الطائفية والعرقية لولا الغطاء الجوي الروسي والأمريكي لانهزمت وانكسرت، ومع هذا فإن هذه الميليشيات لن تستطيع القتال لفترة طويلة، فهم لن يتحملوا ما عجزت عن تحمله جيوش روسيا وأمريكا.
لن تفلح الصواريخ والطائرات والقصف الجوي في قهر المسلمين لفترة طويلة، وحتى لو استخدموا أسلحة الدمار الشامل وستفقد هذه الغارات مع اتساع المعارك تأثيرها، ولن يفرض التفوق الجوي سيطرة على الأرض؛ فالأرض لمن يقف عليها من أهلها وليس للغزاة الذين يطيرون فوقها ويقصفون الأطفال والنساء والمدنيين في بيوتهم.
وسيظل الشعب السوري المقاوم صاحب الأرض هو الطرف الأقوى الذي سيحسم الصراع وليس الميليشيات الطائفية المعتدية والجيوش النظامية المحتلة، وسيخرج السوريون - رغم المعاناة - أكثر قوة، وستنتهي بإذن الله حقبة الانهزام والاستضعاف.
نقلا عن الجزيرة مباشر