لم تحسم بعد مسألة خلافة الرئيس محمود عباس، التي بلغت ذروتها الشهر الماضي، على خلفية التكهنات حول مستقبل الرئيس وخلافته، أمر دفع نحو العديد من السيناريوهات التي ارتبطت بتحركات عربية، شملت عواصم العديد من الدول العربية، وعلى رأسها القاهرة؛ فمصر رفضت استقبال جبريل الرجوب مطلع الشهر الماضي، موحية بتدهور كبير في العلاقة بين الرئيس الفلسطيني والسلطات المصرية.
في حين نشط محمد دحلان المنافس الكبير لعباس في الساحة المصرية، وقدم إطلالة إعلامية على فضائية البي بي سي، وفرانس 24، من بعدها وغيره كثرا، منتقدا سلطة الرئيس عباس، وداعيا إلى تجديد شباب القيادة الفلسطينية، وزاد الأمر سوءا عجز مطلق في مواجهة المشاريع الاستيطانية، أو وقف الاستهداف الصهيوني اليومي للأقصى ومدينة القدس، رافعا من مستوى الحرج الذي تعانيه السلطة في رام الله.
ورغم تراجع المخاوف بعد القمة العربية لدى السلطة في رام الله، إلا أنها لم توقف عجلة الحقائق المتدهورة عن الدوران، والممثلة بحكومة يمينية صهيونية، وحملة استيطانية واسعة مترافقة مع حملة شرسة على القدس والمسجد الأقصى، معززة بإدارة أمريكية جديدة؛ فالواقع الفلسطيني، خصوصا في الضفة الغربية، يمتاز بالتآكل اليومي؛ بفعل موجات الاستيطان، والنوايا الصهيونية المبيتة لحسم مستقبل الضفة الغربية، بما يتناسب ورؤى اليمين الصهيوني المتطرف.
أمام هذه الحقائق المتدهورة، جاءت أزمة الرواتب في قطاع غزة لتوحي أن السلطة الفلسطينية تبحث عن ملاذ للهروب من الواقع المتدهور، والساعة البيولوجية التي لا تجامل أحدا، ملقية باللوم على الانقسام تارة، وعلى الاتحاد الأوروبي تارة أخرى الذي أنكر بدوره أي صلة بأزمة الرواتب، مترقبا نتائجها على الأرجح، فهي تخاض في بيئة حساسة أمنيا وسياسيا؛ فالتهديد بإعلان قطاع غزة إقليما متمردا، والإيحاء بإمكانية فك الارتباط مع القطاع لن يوقف دوران الساعة البيولوجية، ولن يعزز مكانة السلطة في رام الله، بل سيمهد الطريق لمزيد من المعارك السياسية مع خصومه المتشككين بمستقبل السلطة، في ظل التغول الاستيطاني والاستهداف الصهيوني اليومي للمسجد الأقصى؛ والذي ترك الباب مفتوحا لتوتر سياسي محلي وإقليمي.
فالقمة العربية على أهميتها لم يتم استثمارها بشكل واقعي من قبل السلطة الفلسطينية في رام الله، إنما دفعت بالأمور نحو مزيد من المعارك الداخلية؛ هروبا من الواقع؛ وتهربا من استحقاقات المواجهة مع حكومة اليمين المتطرف الصهيونية، أو حتى مع حقائق التقادم الزمني في ظل غياب عملية سياسية، مستندة إلى مؤسسات منتخبة، وهو هروب قاد نحو معارك مفتوحة مع العديد من مكونات الشعب الفلسطيني، سواء بانتقاد السلطة في رام الله لجهود فلسطينيي الشتات وتشكيكها بمؤسسات المجتمع المدني، وليس انتهاء بإطلاق معركة الرواتب في قطاع غزة.
معركة لم تساعد السلطة على تحسين تموضعها في الساحة المحلية الفلسطينية أو الإقليم، بل يتوقع أن تزيد واقعها تدهورا في ظل تقادم الزمن، ودوران الساعة البيولوجية التي لا تجامل أحدا؛ فمستقبل الرئاسة سرعان ما سيعود للواجهة، فهو من الحقائق الراسخة، مرهونا بانتخابات المجالس البلدية والتشريعية، والأهم من ذلك تقرير مستقبل حركة فتح التي لم ترتب أوراقها الداخلية بعد، في ظل الاصطراع الداخلي والإقليمي حول دور الحركة ومستقبلها.