المرأة كانت دمية غارقة بالجهل فاستطاع المجتمع تكريسها جارية للمتعة، وكان لا بدَّ للإسلام أن يغيّر تلك الصورة لحفظ كرامة النساء والارتفاع بهن إلى مستوى أرقى.
من يدرس تاريخ المرأة منذ نهاية العصر الأمومي إلى الآن، سيصعق من شدة الحيف والقهر والذل الذي لحق بها، وذلك عند معظم الأمم والمعتقدات، وسيجد بكلّ تأكيد ذروة هذا الذل في الديانة اليهودية وبعض المجتمعات الغربية في العصور الوسطى التي أمضت عقودا من حياتها متسائلة إن كان للمرأة روح أم لا؟
وفي حال كان لها روح فهل هي روح إنسانية أم غير ذلك؟ وانتهى بهم المطاف لاختراع كان الأشد إذلالا تمثل فيما كان يعرف بحزام العفة. أما اليوم وبعد قيام الثورة الصناعية وثورة الحرية الفرنسية وامتلاك الفرد حريته الفردية بما يتماشى وحالة التسليع التي تشكل ضرورة قصوى لاستمرارية سطوة رأس المال، فقد غدت هذه المجتمعات مشغولة تماماً -وبسبب هواجسها السياسية والاقتصادية- بوضع المرأة في مناطق صراعها أو فلنقل في مستعمراتها القديمة ومن الطبيعي أن يُشكِّل الحجاب مدخلاً واسعاً للنفوذ والتّدخلات السّافرة.
كثرت الفتاوى حول الحجاب وأثارت جدلاً لدى عامة المسلمين خاصة فتوى شيخ الأزهر بأنّ للفرنسيين الحق بمنع الحجاب في بلادهم وأنّ استجابة المرأة المسلمة لقوانين الدولة غير المسلمة تكون في حكم الشّريعة الإسلامية "حكم المضطر".
ينسجم ذلك القول -وإن كان في مناسبة خاصة- مع ما جاء على لسان المفكر الإسلامي الدكتور محمد شحرور الذي أفتى بأنّ الحجاب ليس من أركان الإسلام وهو عرف اجتماعي لا أكثر مستنداً بذلك على حوادث جرت في صدر الإسلام بالإضافة إلى تفسيره المختلف لنصوص القرآن.
السّؤال الذي يطرح نفسه هل الحجاب عائق أمام تطور المرأة وتقدمها في المجالات العلمية؟ أصحيح أنّ الحجاب هو الذي زج المرأة في سجن الجهل والتّخلف؟
لم يكن الزي الذي ترتديه المرأة في يوم من الأيام عنوان تقدم الشعوب أو تخلفها، ولم يكن يوماً رمزاً لجهل صاحبته وتخلفها، أو تطورها وثقافتها، فكم من المتحررات اللواتي يتشبهن بالغرب في أزيائهن وشكلهن الخارجي لا يعرفن من الدنيا غير مظهرها، وكم من المحجبات نلن مراتب متقدمة في العلم والثقافة وتفوقن في مجالات كانت حكراً على الرجال. ومنذ أقدم العصور وحتّى اليوم كانت المجتمعات الإنسانية ذات تقاليد متنوعة ومختلفة جداً في أشكال الثياب، وغالباً ما يكون الزي تعبيراً عن حالة اجتماعية، فنساء الطبقة الكادحة عادة تختلف ملابسهن عن نساء الطبقة الغنية، كما يختلف زي الفتيات عن كبيرات السن، والرجال أيضاً اختلفت أزياؤهم على مرِّ العصور فاتّخذوا الطرابيش في عهد السلطنة العثمانية، واعتمروا القبعات في عهد الاحتلال الأجنبي، أمّا الفلاح فيكتفي بالطاقية، واللباس الشّعبي يختلف باختلاف البلدان.
في جلسة خاصة في اجتماع أدبي ضم عدداً كبيراً من مثقفي حلب كان يعقد بشكل دوري كلّ شهر لمناقشة عمل أدبي، نوقشت روايتي "المعراج".. لم أكن أعرف من الحاضرين سوى الروائي نهاد سيريس، وفوجئت حين انتهى النقاش حول الرواية بسؤال استنكاري حول حجابي! سألته طبيبة محاضرة في جامعة حلب.. "كيف استطعتِ كتابة مثل هذه الرواية وأنتِ محجبة في بيئة محجبة!". وقبل أن أجيب استأذن دكتور محاضر في كلية الهندسة بالرد على السائلة بقوله: "ما علاقة الحجاب بالإبداع؟ هل عقلها هو الذي يرتدي هذا الزي؟ وهل يعني أنّك تربطين بين الزي والفكر؟ سؤالك يأخذنا إلى اتهام مريم العذراء بالجهل فهي أيضاً كانت محجبة!". وقد كان الدكتور مسيحياً.
لقد شُرّع الحجاب للمرأة الحرة صوناً لها وتمييزاً عن سواها من الإماء، وفي قوله تعالى من سورة الأحزاب الآية 59 : "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"، أمر واضح لأزواج النبي ونساء المؤمنين في ذلك العصر، وقد جعل الفقهاء ذلك شرعاً لكلّ العصور والمجتمعات، فالمقصود في الآيات صون المرأة وإخراجها من الصّورة التي رُسمت لها في التّوراة، صورة الجارية والسلعة التي خلقت لمتعة الرجل وإرضاء نزواته. جاء في سفر أشعيا، الإصحاح الثالث: "وقال الرب، من أجل أنّ بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق وغامزات بعيونهن، وخاطرات في مشيهن ويخشخشن بأرجلهن، يُصلِعُ السيّد هامة بنات صهيون، ويعري الرب عورتهن، ينزع السّيد في ذلك اليوم زينة الخلاخيل والضفائر، والأهلة، والحلق، والأساور والبراقع، والعصائب، والسلاسل والمناطق، وحناجر الشّمّامات والأحراز، والخواتم، وخزائم الأنف، والثياب المزخرفة، والعطف، والأردية، والأكياس، والمرائي، والقمصان، والعمائم، والأزر، فيكون عوض الطيب عفونة...."، فإذا نظرنا إلى هذا الكم من الزينة التي تظهر بها المرأة خارج بيتها، نرى أنّ الغاية منها واضحة، وهي لفت أنظار الرجال بالمشية ودق الأرجل لتصدر الخلاخيل أنغامها، وحركة المرأة تلك تصدر أصواتا وأنغاما مميزة تشد الراغب في الشّراء فيتوقف لفحصها وإشباع ناظريه وحواسه منها قبل أن يقرّر طريقة التّمتع بها.
المرأة كانت دمية غارقة بالجهل فاستطاع المجتمع تكريسها جارية للمتعة، وكان لا بدَّ للإسلام أن يغيّر تلك الصورة لحفظ كرامة النساء والارتفاع بهن إلى مستوى أرقى بإعطائهن حقوقهن في المشاركة في الحياة بشكل فاعل. وقد خرج الإسلام بالمرأة من الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي كرّسه النظام الإقطاعي في عصور اعتبرت الدعارة فيها جزءاً من الدين، جاء في التوراة (اكشفي نقابك، شمري الذيل، اكشفي الساق، اعبري الأنهار، تنكشف عورتك). خوطبت المرأة في التوراة على هذا الشكل؛ لأنّها لم تعتبر يوماً إنساناً مساوياً للرجل في الحقوق والواجبات بل زانية مهما فعلت بنظر المجتمع الذكوري الذي دس في التوراة ما يحلو له أن تكون عليه تلك الملعونة أبداً، الخاطئة دائماً، الآثمة، الداعرة، التي لا يؤمن جانبها.
أما آية الحجاب التي احتجّ بها بعض من أرادوا للمرأة الاحتجاب النهائي عن المجتمع، في قوله تعالى من سورة الأحزاب: "وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن"؛ فالمقصود بهذه الآية هو سؤال نساء النبي من وراء ساتر، وذلك يتماشى مع حكمه تعالى بألا يتزوجن بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- ولو كان المقصود منه حجب المرأة، لما شاركت عائشة رضي الله عنها في شيء من أمور الدولة في عصرها.
تحوّل الحجاب في عصرنا من زي يميّز المرأة المسلمة إلى "موقف" سياسي غارق في التّطرف، فقد حَمّله أنصاره وأعداؤه فوق ما يحتمل، فصار رمزاً للتخلف عند المتحزبات لحريّة المرأة، ورمزاً للتطرف والإرهاب عند الغرب لذا؛ قامت بعض الدول مثل فرنسا بمنع ارتدائه.. وارتبط الحجاب في عصرنا ارتباطاً وثيقاً في نظر العالم المتمدن بمدى تطور الدولة وسلطة الحكومات التي تحاول علمنة الشرع الإسلامي لإرضاء أسيادها في الغرب. وهذا الدور تقوم به بعض الناشطات على الفيسبوك واليوتيوب حين يخلعن حجابهن بطريقة استعراضية في بث مباشر مستفز يخفي وراءه الغاية الأساسية وهي المتاجرة بهذا الموقف فهو طريقة جديدة لكسب المال وفي الوقت نفسه إرضاء النزعات المريبة لدى الغرب.
نقلا عن الجزيرة مباشر