كتبت تسنيم ياسين
عرفت البلدة القديمة في الخليل على مر التاريخ الفلسطيني بأنها من أكبر المراكز التجارية والصناعية في فلسطين، فمن لم يسمع بحارة القزازين؟ أو حارة الحدّادين؟ زجاج الخليل ولبنها وعنبها؟ كانت مقصداً للتجار من مختلف الدول ليعرضوا فيها بضاعتهم ويطوروا تجارتهم.
ولكن، بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي التي حدثت في الخامس والعشرين من شباط لعام 1994 على يد الصهيوني باروخ غولدشتاين، شن الاحتلال حملات مستمرة لإغلاق المحلات والسيطرة على الأبنية والبيوت في محاولة لإحكام الحبل الاستيطاني حول عنق البلدة وإخراج أهلها منها، إلا أن أهلها استمروا بالصمود الذي يفتقد لمقومات تطيل عمره وتجعله أقرب إلى التحقق، تحملوا ثمناً باهظاً بكساد التجارة والخلو النسبي للطرقات من الزوار والمشترين.
هدوء نسبي مهيب يخيم عليها، ترى المحلات على الجانبين مغلقة أبوابها أو يجلس صاحبها أمامها ينادي بصوت أخفض مما اعتادت عليه الأذن في البلدات القديمة المنتشرة في المدن الفلسطينية، ترى الأقواس وبقايا الحمام التركي والأبواب، كل شيء يشابه مثيله في المدن الأخرى ولكن تتابع النكبات على المدينة وأهلها لم يترك لهم فرصة لاسترداد أنفاسهم المنهكة، ليظهر ذلك جلياً على الحجارة والأبنية ووجوه سكانها وتجارها.
الحاج محمد هنية "أبو علي" يحمل سني عمره الطويلة كل يوم ويأتي إلى البلدة للاطمئنان على ما كان سابقاً محلاً لوالده ثم انتقل إليه، حينما شاهد فريقنا انضم إلينا يحدثنا بلهجته الخليلية المميزة: "كل يوم أنزل إلى محلنا الذي كان قبل أن بيعوا البلاد، كل البركة كانت هنا، ولكن اليوم صارت خراباً".
الحاج شديد الذي ينحدر من بلدة دورا جنوب الخليل، وهو أستاذ متقاعد منذ أكثر من 26 سنة، اختار الاستقالة من عمله مدرساً للرياضيات ليتفرغ للمحلات التي تركها له والده بعد وفاته في حارة القزازين، يروي لنا تفاصيل صراعه مع الاستيطان: "اخترت الاستقالة من عملي لأساهم في إحياء البلدة القديمة بعد وفاة والدي، كان لدينا كراج فيه خمس حافلات، لكن المستوطنين استولوا عليهم، وحينما رفعنا عليهم قضية في المحكمة كسبناها وأثبتنا أن الكراج ملك لنا، وفوراً بعدها بيوم أصدر وزير الدفاع حينها إيهود باراك أمراً عسكرياً بالاستيلاء على المنطقة وهكذا حتى هذا اليوم.
لدي قناعة تامة بأن المال هو "وسخ إدين"، ومهما تضايقنا واستمروا في زياراتهم الاستفزازية وإغلاقاتهم سنظل هنا ولن نترك بلادنا للدخيلين علينا، الآن شارع الشهداء مغلق وكله مليء بالمستوطنين ولكنك إن سرت قليلاً بعد الشارع ستجد أنما فوقه بيوت مليئة بالعرب الأصليين".
في كل لحظة يتوقع دخول المستوطنين، وما يلفت أيضاً جود المشابك التي يضعها أهالي البلدة حماية لهم مما يلقيه المستوطنون من حجارة ومياه عادمة.
رغم ما يعنيه بقاء تلك المحلات والأبنية من معاني الصمود والصبر إلا أنها في الواقع تفتقر إلى ما يجعلها كافية لأصحابها، وهو ما دفع الكثيرين إلى تركها أو مشارتها مع مهنة أخرى تطعم خبزاً.
الصحفي رائد أبو رميلة هو أحد سكان البلدة القديمة ويملك محلاً فيها، إلا أنه يعتمد على مهنة الصحافة بجانب المحل، يقول: "هذه المحلات المغلقة أبوابها منها ما توفي أصحابها وأخرى هم موجودون، ولكن في الحقيقة هذه المحلات تفتقر إلى مقومات العيش، والسبب في ذلك قلة إقبال الناس، فكيف لك أن تقنع شخصاً بأن يأتي ويدفع رأس مال ليفتح دكانه ثم بعد ذلك يجلس متفرجاً؟ في رمضان والمناسبات الدينية تزدهر الحركة نوعاً ما ولكن في باقي المواسم هي كما ترون خالية".
إذن هي المعادلة نفسها التي يبقى الفلسطيني رهناً لها، إما صمود دون مقومات تقوي عزيمة أصحابه وتخفف عليهم أو رحيل ثمنه الأرض.