وكذلك حينما يتغنى المواطن ببسالة جيش بلده، وعظيم مجده، وتليد نضاله، ويدفع له من حر ماله، ويُضحي له بفلذات أكباده، ثم يُفاجأ أن هذا الجيش تخلى عن واجبه في حماية الوطن
وصل الأمر بكفار قريش أن أحدهم كان يصنع إلهاً من العجوة ثم يقوم بعبادته، فإذا اشتد جوعه أكل صنمه، لقد كذب أولاً ثم صدق نفسه، حتى صار الكذب عقيدة وديانة، وصارت له طقوس ومناسك يلزم نفسه بها تقرباً لصنمه ، ولم يفق من غفلته إلا حينما قرصه الجوع فتذكر أنه الذي صنع الإله ، وأنه صاحب العجوة، وأن حل مشكلته في التخلص من الصنم الذي صنعه، والرجوع عن الكذبة التى اختلقها، والوهم الذي رسمه، فلما تذكر ذلك التهم صنمه، وسد جوعته . العجيب أنه بعد أن استشعر الشبع أخذ يبحث عن عجوة أخرى ليصنع منها إلهاً جديداً !
منهج فكري
وهكذا فإن صناعة الأصنام منهج فكري تنتهجه الشعوب حينما تفقد وعيها، وتنتهجها المجموعات والمؤسسات والتيارات حينما تقودها العاطفة في غياب من العقل والوعي والإدراك!
و أظن أن الحالة التي وصلت إليها بلادنا ليست بعيدة عن هذه الحالة، بل أظنها نموذجاً تطبيقيا كاملاً لصناعة تلك الأصنام والالتزام بمناسكها والاستمساك بمبادئها!
فالأوطان والأعلام قيمتها في اكرام أهلها، وطمأنينة نفوسهم، وأمان قلوبهم، وحفظ كرامتهم، وصيانة أعراضهم، وقوة رابطتهم، فإذا لم تحقق الأوطان لشعبها شيئاً من ذلك فما قيمتها؟
إذا لم يجد فيها المواطن أمان نفسه، وصيانه دمه، وإشباع جوعته وستر عورته، وسد خلته، وحفظ كرامته، فما قيمة التمسك بها؟ وما قيمة التغني بأمجادها ورفعة رايتها؟ بل إن الله تعالى لم يقبل عذر من قصر في القيام بواجباته الشرعية معتذراً بظروف وطنه، وقوانين قومه، فقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . سورة النساء
وكذلك حينما يتغنى المواطن ببسالة جيش بلده، وعظيم مجده، وتليد نضاله، ويدفع له من حر ماله، ويُضحي له بفلذات أكباده، ثم يُفاجىء أن هذا الجيش تخلى عن واجبه في حماية الوطن، وتفرغ لسفك دم أبنائه، وإهدار كرامتهم، ونهب ثرواتهم، وانتهك حرماتهم ، بل صوب سلاحه لصدورهم ورؤسهم، ووالى أعداءهم، وحارب أوليائهم ، فما قيمته حينئذ ، وما فائدة البقاء عليه، والتغني بعظيم ماضيه، والاستمساك بمناسكه الجائرة، وقيمه الظالمة، أليس الأولى بالشعوب أن تاكل زادها، وأن تسترد عقلها، وأن تتوقف عن الطواف حول صنمها؟
ما قيمتها؟
وكذلك المؤسسات الدينية الشريفة، والقضائية الشامخة، وغيرهما، ما قيمتها إذا لم تحمِ القيم، وتحفظ الهوية، وتقيم العدل، وتنصر المظلوم، وتأخذ على يد الظالم؟
وما قداستها إذا هي تلوثت؟ وما طهارتها إذا هي تنجست؟ وما شرفها إذا هي تدنست؟ ولماذا يجب على المواطن أن يستمسك بها وهي تفرط فيه، ويدافع عنها وهي تبيعه بلعاعة من الدنيا لا قيمة لها؟
أليس التوقف عن الوهم أولى، والإقرار بالحق أفضل، والاعتراف بالخطا أكرم؟ أليس التوقف عن الطواف حول تلك الاصنام، والتوقف عن تعظيمها في نفوس الأجيال هو الأوجب شرعاً وعقلاً ، كي لا يطوف أحفادنا حولها خانعين، لا حجة لهم من منطق أو دين، إلا قولهم : هذا ماوجدنا عليه أباءنا؟
فكل بناء يحقق نقيض هدفه وجب هدمه، وكل منظومة تسير عكس ما وُضعت له يجب نقضها، وكل مسجد بُني لغير ذكر الله والصلاة فإنه مسجد ضرار يجب حرقه، وكل قائد يُضلل اتباعه، ويُدلس على جنوده، ويفشل في مهامه يجب التخلص منه، وليس من حق أحد أن يرفع عقيرته بالحديث عن فضل المساجد ومكانتها، وفضل القيادة ووجوب طاعتها، وفضل العجوة وحلاوتها، لأنه ببساطة مُغيب يعيش في الأوهام، أو كاهن يقتات من المعبد، أو تاجر يبيع العجوة في السوق.
مراجعة المفاهيم تشخيص صادق للداء، والتوقف عن الطواف حول الأصنام أول الدواء، والإقرار بالخطأ من شروط التوبة، والمصارحة بالحقائق علاج ناجع مهما كان مراً ، وكي جسد المريض بالنار مفيد مهما كان مؤلماً.
نقلا عن الجزيرة مباشر