د. جمال عبد الستار
لا أَعلمُ فساداً في الأرض كفسادِ أهل العلم إذا تَحولوا إلى تُجار، ولا أَعلمُ ضرراً يُمكن أن يَحدث للأمة كتضرُّرِها من عُلماءِ السُوءِ وخُطباءِ الفتنة.
ولا أَعلمُ خِلافاً يَقطعُ رَابطةَ الأمة ويُشتتُ شملها، ويُفسدُ عليها أمرها، كخلافٍ يُزكيه أهلُ العلمِ بلحنِ القول، وَتَلبيسِ الفتوى، وشرعنةِ الفساد والطغيان، كما قال ابن تيمية رحمه الله :هذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها"
وكذلك في تاريخِ الأمة لا تَجدُ انتكاسةً لِمَسيرتَها، ولا طُغياناً من حكامها، ولا استبداداً من وُلاتها، إلا وَخَلفه طُغمة من المنتسبين للعلم يُبررون، وَيُحللون، ويُدلسون على الأمة، ويُلبسون الحقَ بالباطل، ويقولون هو من عندِ اِلله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون.
لذا فما كان لأنظمةِ الطغيان في المنطقة أن تستمرَ في غَيِّها، وَتَتمادى في ضلالها، وتُفسدَ الحرثَ والنسل، وتقمعَ الشعوبَ وتنهبَ الأموال، وتقمعَ الحريةَ وَتَسْلُبَ الإرادة، لولا رجالٌ من أهل العلم تم شِراؤهم، وصِبيانٌ لهم دَجالونَ تمت صناعتهم، فانطلقوا يُدلسون على الشعوب بفكرة السمع والطاعة المطلقة للحكام، وإن كانوا يَسْعَونَ في الأرض فسادا، فَيستعبدونَ العباد، ويُدمرونَ البلاد، وينهبونَ الأموال، ويغتصبونَ الأعراض، ويبيعونَ الأوطان، ويوالونَ الأعداء ويتحببونَ إليهم، ويُحاربونَ العلماءَ والأولياءَ ويتآمرونَ عليهم!!
وأية فتنة؟
وانطلقَ فِئامٌ من المنتسبينَ للعلم يأخذونَ الناسَ إلى التيه حتى لا يُدركوا الأمورَ على حقيقتها،
فمنهم من أخذ الأمةَ إلى تيهِ العزلةِ عن الدنيا والاعتكافِ في كهف الزهد، واللهثِ خلفَ الكرامات والأضرحة وضلالاتِ التصوف وخُزعبلاتِ الموالد، وبعض هؤلاء أخذوا المقابل بوضعهم على رأس المؤسسات الدينية، ودعمهم بالمال لجلب العوامِ وضِعاف ِالنفوس إلى ضريح الضلال والبهتان.
ومنهم من شَغَلَ الأمةَ بقضايا اللباسِ والمظاهر، وأغرقوها في القضايا الخلافية القديمة التي لا أثر لأغلبها على واقع الأمة ومستقبلها، فإذا اشْرَأبتْ أعناقُ الأمةِ إليهم في النكبات والنوازل وَجَدتهمْ في بِئرِ الرذيلة يبيعون دينَهُم بِعَرَضٍ من الدنيا!!
وأيُة فتنةٍ للأمة كَفِتْنَتِهَا بمؤسسةِ الأزهر حينما يُفتي شُيوخُه للأمة بأن المظاهراتِ حرامٌ، وأن بيعَ الوطنِ حلالٌ، واعتقالَ العلماءِ والمفكرينَ حلالٌ، واغتصابَ الرجالِ والنساءِ حلالٌ،وأن مقاومةَ المحتلِ جريمة، ومُناصرةَ المجاهدينَ إرهابٌ، وَطُوبى لمن قتلَ الراكعينَ والساجدينَ والصائمين!!!
أيُة فتنةٍ للأمةِ كفتنةِ هيئةٍ تُلقبُ نفسها بهيئةِ الكبار، وأَلَاعِيبها لاتَنْطلي على الصغار، وبياناتهم تَطْفحُ بالغباء، وتُشمتُ الأعداء!!!
فيقولون للمسلمين في قطر: إنَّ حِصارَكُم من مَصْلحتِكُم العَلِيّة ومَكَانَتِكُم البَهيّة، بل هو من نعمِ اِلله عليكم، فطيبوا نفسا به، واطلبوا من الله المزيد، وقد جاءَ في الكتاب أن الحصارَ يُطهرُ المسلم من الإرهاب، ويدفعُ عنه أي حماس، بل ويُطهرهُ من مرض الرفق بالانسان، أو حتى بالإخوان!!
وسَنَمْنَعُكم من الطوافِ بالبيت ونُكلِّفُ إمامَهُ بالدعاءِ عليكم، وما دفعنا إلى ذلك إلا العملَ لمصلحتكم !!!
مقاومة المحتل
أيُة فتنةٍ للأمةِ كفتنةِ شيخٍ يقولُ في كتاب أَصْدَرَهُ: إنَّ الثورةَ على الحكامِ الظلمة معصيةٌ لله تعالى، لأنها اعْتراضٌ على تقديره سبحانه حيث قال في القرآن (يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء).
فقلتُ له الحمد لله أنك لم تكنْ موجودا أيامَ الاحتلال الإنجليزي أو الفرنسي أوغيرهما، حتى لا تُفتي بأنَّ مقاومةَ المحتلِ اعْتراضٌ على تقدير الله!!
والعجيب أنه يَصْحَبُ معه جهاز الضغط ليطمئن على نفسه دائما، فقلتُ له: إن مقاومةَ مرض الضغط اعتراض على قدر الله، فلو تركتَ الضغطَ ليرتفعَ بقدر الله فيأخذَ أجلَكَ لِتَرْتاحَ البشريةِ من شركك وضلالك لكان أولى وأرحب!!
أيُة فتنةٍ للأمة حينما يَضعُ الناسُ ثِقتُهم في بعضِ الدُّعاةِ فَيَسْمَعُونَ لِدُروسِهم وخُطبِهم، وينشرونَ في العَالمينَ أقوالَهم، ويُتابِعونَ بعشرات الملايين صفحاتهم ومواقعهم، و يتلمسوهم أوقاتَ البلايا واختلاطِ الأمور فيجدون منهم لحنَ القول، ومداهنةَ الطغاة وشرعنةَ البغي وتزيينَ المنكر!!
أيُّة فتنةٍ أن تحدث الفاجعة تلوَ الاخرى فَتَتَوَاصَل مع الهيئاتِ العُلمَائيةِ والمؤسسات والروابط والرموز فتجدَ أن المواءماتِ أَسْكتتْ أكثرهم والمصالحَ كَمَّمتْ أفْواهَهم، والحساباتِ دفعتهم إلى التَّثاقُلِ والتردد والتواري؟!!
القاسم المشترك
ابْحثْ عن الطغاة في كل عصرٍ سَتجدُ القاسمَ المشتركَ بينهم تلك المطرقةُ القاتلةُ التي يُحطمونَ بها رؤوسَ الناس والمتمثلة في كهنةِ المعابدِ الذين ارْتَضوا التنسُّكَ في محرابِ الأنظمة، يُحِلُّونَ لهم الحرامَ ويُشَرِّعُونَ لهم الطغيان!!!
لذا كان من الطبيعي أن يقولَ الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أخوف ما أخافُ على أمتي الأئمةَ المضلين)). رواه أبوداود.
وكان من الفراسةِ أيضا أن يقولَ سيدنا عمر رضي الله عنه لزياد بن خُدير: ((هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلةُ العالم، وجدالُ المنافقِ بالكتاب، وحكمُ الأئمةِ المضلين)). رواه الدارمي
ولأن تلكَ العوامل كلها قد اجتمعت على الأمة، فقد وجب على الربانيين من أهل العلم الانطلاق بالراية من دون تردد، والتترس بالحق الذي يحملونه دون تشكك، وتصدر صفوف الأمة للخروج من كبوتها، ورسم مسار ريادتها، والأمة لاتخلو من قائم لله بالحق، وخيرها لا ينقطع أمده، وأولياء الله من علمائها أوتاد الأرض، وأهل الصدق منهم لم يجف مدادهم، فأين هم إذاً؟ وأين أثرهم؟
نقلا عن الجزيرة مباشر