سيدخل يوم السابع من الشهر السابع من العام السابع عشر بعد الألفين التاريخ، باعتباره بداية التخلص النهائي من الأسلحة النووية، حيث اعتمد المؤتمر العام المفوض من الجمعية العامة بغالبية 122 دولة معاهدة تاريخية ملزمة قانونا تقضي بحظر الأسلحة النووية تمهيدا للقضاء عليها مرة وإلى الأبد، ليصبح عالم الغد أكثر أمنا وأمانا للأجيال القادمة.
لقد تغيبت الدول النووية التسع الحالية، ومعها أعضاء حلف الناتو وثلة من الدول الصغيرة عن الاجتماع، خجلا من مواقفها المخزية وهي تتمسك بسلاح يستطيع تدمير ملايين البشر، ليس بالضرورة أثناء عمليات عسكرية، بل لمجرد خطأ إنساني أو تكنولوجي. لقد أصدرت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا بيانا مشتركا بعد التصويت مباشرة، يدافع عن وجود الأسلحة النووية كقوة ردع ساهمت في صنع السلام العالمي، ولا نعرف عن أي سلام يتكلم هؤلاء بعد أن خاض العالم أكثر من 360 حربا منذ الحرب العالمية الثانية دون أسلحة نووية، كان للولايات المتحدة نصيب الأسد منها جميعا، خلفت من الضحايا عشرات الملايين.
لقد ظلت الدول الصغيرة والضعيفة والمسالمة تطمح أن تقوم الأمم المتحدة بدور قيادي في نزع أسلحة الدمار الشامل التي صنعتها الدول الاستعمارية واكتوت بنيرانها شعوب العالم النامي، وصولا إلى يوم يكون العالم خاليا من تلك الأسلحة. لكن عندما كانت هناك انتقائية في القدرة على امتلاك الأسلحة الفتاكة، بدأت العديد من الدول تدخل أو تحاول أن تدخل نادي الأسلحة النووية، فإن لم يكن ذلك ممكنا فتعوض عنها بأسلحة بيولوجية أو كيميائية. لكن جهود الدول المسالمة بقيت متواصلة لتعزيز آليات نزع السلاح ووقف سباق الأسلحة. ونعتقد أن العالم وصل الآن إلى قناعة مفادها ضرورة التخلص من الأسلحة النووية بعد العديد من الإنجازات في مجال الأسلحة الفتاكة الأخرى.
البداية كانت من الشعوب
بعد التفجيرين النوويين اللذين قامت بهما الولايات المتحدة ضد مدينة هيروشيما اليابانية يوم 6 أغسطس 1945 وناغازاكي بعد ثلاثة أيام، اللذين خلفا مئات الآلاف من القتلى، والدمار الهائل والخراب المتواصل، بدأت حركة شعبية في اليابان لنزع السلاح النووي قبل أن يستفحل الأمر. أنشئ المجلس الياباني لحظر القنابل النووية والهيدروجينية، واستطاعت الحركة أن تجمع تواقيع 35 مليون شخص ضد السلاح النووي. انتقلت الحركة إلى بريطانيا وأوروبا الغربية ثم الولايات المتحدة، حيث نظمت مسرة نسائية عام 1961 في 60 مدينة أمريكية ضمت أكثر من 50000 امرأة ضد الأسلحة النووية، اعتبرت أكبر مظاهرة سلام نسائية في القرن العشرين. وتعاظمت الحركات الجماهيرية المناهضة للأسلحة النووية، فانضم إليها العلماء والساسة الكبار والحركات المدنية، وشكلت ضاغطا أخلاقيا ومعنويا على القيادات السياسية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقا، إلى أن وقع الرئيسان جون كنيدي ونيكيتا خروتشوف أول معاهدة جزئية لمنع التجارب النووية عام 1963. ولكن لم يكن هذا كافيا، حيث شكلت منظمات أهلية عديدة استمرت في حملاتها لحظر الأسلحة النووية، خاصة بعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، التي كادت أن تأخذ العالم إلى الهاوية.
اتفاقية عدم الانتشار النووي لم تكن كافية
القناعة بعمل شيء عظيم لوقف التسلح النووي تولدت عند معظم دول العالم، حيث تم توقيع اتفاقية عدم الانتشار النووي المعروفة باسم (إن بي تي) عام 1968 التي تعتبر خطوة تاريخية على طريق حصر السلاح النووي كخطوة أولى نحو التخلص منه. دخلت الاتفاقية حيز الإلزام عام 1970 على أن تجدد مرة كل خمس سنوات. الاتفاقية تتضمن ثلاثة التزامات رئيسية: منع أي دولة غير نووية من محاولة اقتناء السلاح النووي. يقفل نادي الدول النووية على الدولة الخمس على أن تتعهد بخفض تدريجي لترساناتها النووية، وصولا إلى التخلص الكامل، ثم حق الدول غير النووية في اقتناء التكنولوجيا النووية للأغرض السلمية. الاتفاقية بدأت بأربعين توقيعا ووصلت اليوم إلى 190 توقيعا.
العيوب في تلك الاتفاقية عديدة، وأولها أن هناك دولا ذات نوايا سيئة لم تنضم إليها ومن بينها إسرائيل والهند وباكستان (وجنوب إفريقيا أيام الأبرتايد وكوبا لغاية 2008). وثاني تلك العيوب الأساسية أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لم يلتزما بتعهداتهما بخفض الترسانة، بل استمرتا في تطوير تكنولوجيا الأسلحة النووية. وثالث تلك العيوب أن محاولات بعض الدول (فقط محاولات) لامتلاك التكنولوجيا النووية قوبلت بالحروب والحصار والعقوبات والتهديد مثل، العراق وإيران وكوريا الشمالية، بينما لم يتجرأ أحد أن يشير بإصبع الاتهام إلى إسرائيل، مع أن سلاحها النووي أكبر سر مفضوح في العالم. وقد تم الضحك على ذقون العرب عندما أصر السفير المصري الأسبق عمرو موسى عام 1995 على عدم الموافقة على التجديد الدائم لمعاهدة عدم الانتشار، إلا إذا تضمنت الاتفاقية إعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية، وكان لهم ذلك ثم أداروا ظهورهم بعد اقتناص التوقيع. وعند التصلب مرة أخرى في عدم التجديد عام 2010 بقيادة جزائرية وسورية ومصرية، قيل لهم سنعقد مؤتمرا خاصا بالشرق الأوسط عام 2012 في السويد وما زلنا ننتظر المؤتمر.
الجديد في معاهدة 2017
اعتبر المؤيدون للحظر النووي المعاهدة، بانها إنجاز تاريخي أدى إلى انهمار الدموع من رئيسة المؤتمر، سفيرة كوستا ريكا، إلين وايت غوميز، وهي تعلن أمام الحضور والقاعة تدوي بالتصفيق وقوفا: «هذه لحظة تاريخية. العالم ينتظر هذه القاعدة القانونية منذ 70 عاما. إنها رد من أجل الانسانية».
هذه المرة شاركت دول مهمة في قيادة المسيرة إلى الحظر الشامل منها، النمسا والبرازيل والمكسيك وجنوب إفريقيا ونيوزيلندا، ولكن أغرب ما حدث في المؤتمر تغيب اليابان عن المشاركة والتصويت، وهي التي اكتوت بنيران هذا السلاح الفتاك وقاد شعبها مسيرة النضال للوصول إلى مثل هذه اللحظة التاريخية. إنها مفارقة هزلية ومؤلمة تفضح حجم التبعية.
المعاهدة مكونة من عشرين بندا فقط، تصدرتها ديباجة جميلة كأنها مرافعة قانونية في محكمة دولية ضد الأسلحة النووية، واضعة المجادلات الحاسمة القانونية والأخلاقية والعلمية والاقتصادية والبيئية ضد خطر الأسلحة النووية وضرورة التخلص منها، الأمر الذي لا يحتمل الانتظار. فخطر هذه الأسلحة ليس مقصورا على استخدامها في الحروب بل إن خطأ تكنولوجيا أو بشريا قد يؤدي إلى كارثة كونية، كما حدث في مجمع «ثري مايل آيلند» عام 1979 في الولايات المتحدة وتشرنوبل بجورجيا عام 1986، التي ما زالت أوروبا، شرقية وغربية، تدفع الثمن في ما تركت تلك الانبعاثات من سموم في التربة والهواء والمياه والأشجار والمزروعات، وأمراض السرطان والتشوهات الخلقية.
أهم ما في المعاهدة بندها الأول الذي يتضمن حظر تطوير أسلحة نووية، أو أجهزة متفجرة نووية أو تجريبها أو إنتاجها أو صنعها أو حيازتها أو تكديسها. والبند الرابع وعنوانه «السعي للقضاء التام على الأسلحة النووية» ويتطلب هذا من كل دولة طرف في المعاهدة وتمتلك أسلحة نووية أو أجهزة متفجرة نووية، أو كانت في حوزتها إزالة جميع المرافق المتصلة بالأسلحة النووية، أو تحويلها بصورة لا رجعة فيها. وتشمل المعاهدة كذلك بنودا للتحقق والتفتيش والمراجعة والتعاون والسلامة والتعويض لضحايا الأسلحة أو الإشعاعات النووية.
كثيرون هنا يثيرون مسألة قيمة أي معاهدة لا تنضم إليها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، لكن أنصار الاتفاقية بمن فيهم خبراء وسياسيون سابقون وناشطون ورئاسة الصليب الأحمر الدولي، أعلنوا أن هذه المعاهدة هي البداية وقد جاءت نتيجة ضغوط المجتمع المدني، وكما تم التوصل إلى معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية عام 1972 وحظر الأسلحة الكيميائية عام 1992 وأصبحت تلك المعاهدات عالمية بعضوية شبه شاملة، إذن لا بد من الاستمرار في الضغط بهدف الوصول إلى عالمية هذه المعاهدة فنحو 70 في المئة من الشعوب، خاصة في الولايات المتحدة تؤيدها ويعتبرون أن المعركة مستمرة إلى أن يأتي يوم يكون عالمنا خاليا تماما من شبح أسلحة الدمار الشامل. حلم قد يبدو بعيد المنال لكن أمام إرادة الشعوب الحرة لا شيء مستحيل.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيويجرسي