العودة إلى الوطن في فصل الصيف تجربة مريرة من جهة وجميلة من جهة أخرى. المرارة مصدرها تعثر المشروع الوطني، الذي عشنا طوال العمر ننتظر تحقيقه، ولكننا نرى أنه يبتعد أكثر وأكثر وكأنه سراب.
فمنذ اللحظة التي تطأ فيها أرض الوطن تشعر بأن حلم الاستقلال الوطني يحتضر أمام عينيك، وأنت تشاهد هذه المستوطنات المنتشرة كحبال المشانق تلتف حول أعناق المدن والقرى الفلسطينية، زاحفة نحو ابتلاع مزيد من الأرض، محاصرة من تبقى من الشعب الفلسطيني في بؤر سكانية مكتظة أقرب إلى السجن الكبير منها إلى التجمعات السكانية الطبيعية، التي يمارس الإنسان فيها حياته بشكل اعتيادي. والحقيقة التي تتكشف ساطعة أمام عينيك أن إنشاء دولة الوهم الذي وعدنا بها الأوسلويون، من تقدم منهم ومن تأخر، أصبحت أقرب إلى المستحيل، وأن تعميم الوهم ما زال مستمرا، خاصة أن دولة فلسطين التي أعطيت وضع مراقب في الأمم المتحدة عام 2012 ما زال الفيتو الأمريكي واقفا لها بالمرصاد، كي لا تصبح دولة حقيقية مستقلة ذات سيادة ومترابطة وقابلة للحياة، بل بدأ كثير من «العربان» يتطوعون بالإعلان عن استعدادهم بكل صلافة لتقديم فلسطين أو أجزاء أساسية منها للغاصب المحتل.
وبدأ المتلهفون على التقرب من إدارة ترامب والكيان الصهيوني مستعدين لتقديم تنازلات جوهرية على حساب فلسطين وشعبها وحقوقه التاريخية والشرعية والقانونية. والحقيقة المرة الأخرى أن زيارة بيتي وبلدي ووطني غير مسموح بها إلا بشروط المحتل، فأعود إليه كأجنبي سائح يتلقى تأشيرة دخول مدتها ثلاثة أشهر، قد تخسر حق الزيارة إلى الأبد لو تجاوزتها يوما واحدا.
أما الجانب المشرق في هذه الزيارات الصيفية فهو عودة المغتربين إلى أرض الوطن بالآلاف، يصطحبون أطفالهم معهم كي ينغرس في نفوسهم حب الوطن والانتماء له، وتعميق معنى الانتماء للهوية الفلسطينية والتعرف على الأهل والأقارب والعادات الفلسطينية الأصيلة. إنها فرصة للاستمتاع بجمال القرية «أول منزل يألفه الفتى» التي بدأت تستعرض ما لذ وطاب من عنبها وتينها وبرقوقها وخوخها وصبرها. إنها فترة لاستعادة ذكريات الطفولة والشباب في مراتع الصبا في بلد السلام، الذي لم يشهد يوما سلاما على مر العصور والأزمان.
لا أعرف أهي مصادفة أم تخطيط مسبق من قبل قوات الاحتلال، ففي بداية كل صيف يرتكبون جريمة كبرى تعكر الأجواء، وتخلق المبررات لمزيد من الإجراءات الأمنية المشددة، كي ينفروا أبناء البلاد من العودة، خاصة الأجيال الشابة حيث يعتقدون أن الإجراءات الأمنية والمضايقات في أماكن العبور وعلى الحواجز قد تنفرهم ويحلفون ألا يعودوا ثانية. لكن على العكس فهذا يزيدهم إصرارا على العودة ونوعا من التحدي. ففي صيف عام 2014 وبعد يوم أو يومين من وصولي تم خطف وحرق الطفل محمد أبو خضير، وفي صيف 2015 وقبل وصولي بيومين أو ثلاثة قام المستوطنون بحرق عائلة الدوابشة بمن فيهم الرضيع علي، وفي العام الماضي تم هدم اثني عشر بيتا مرة واحدة في بلدة قلندية المجاورة. أما هذا الموسم فكانت الجريمة أكبر، حيث تم إغلاق المسجد الأقصى أمام المصلين ثلاثة أيام بما فيها صلاة الجمعة. وفرضت إجراءات أمنية غير مسبوقة ووضعت بوابات على مداخل الأقصى أشبه بالمعابر الدولية بأجهزة متطورة لكشف ما تحمل من معادن حتى لو كان فلسا معدنيا. المصلون يحتجون والإشتباكات تتجدد كل يوم، وكان ما جرى من قتل رجلي الأمن وإعدام المهاجمين الثلاثة، قد استخدم مبررا لمزيد من الإجراءات التي تبرر تقسيم المسجد الأقصى، أو تسهيل اقتحاماته من قبل المستوطنين، وإعطاء مزيد من الذخيرة لحزب «إسرائيل بيتنا» الذي يدعو إلى الاستيلاء على المسجد وهدمه وبناء الهيكل المزعوم. وقد نسمع قريبا من متطوع «أعرابي» يعرض خدماته لإهداء الأقصى للصهاينة، كما تطوع أحدهم مؤخرا في تأييد إجراءات العقاب الجماعي بنصب بوابات إلكترونية على مداخل الأقصى، علما أن الاتفاقات الموقعة تعطي السلطات الأردنية حق إدارة المسجد، بدون تدخل من إسرائيل، ولو تم الالتزام بتلك الاتفاقات لما وقعت عملية يوم الجمعة الفائت.
بيرزيت ومهرجان التراث
إذا أردت أن تقع في عشق فلسطين من أول نظرة، فما عليك إلا أن تزور بلدة بيرزيت. فقد جمعت هذه البلدة كل ما يريح النفس ويمتع النظر ويقوي العزيمة ويعمق الانتماء لهذا الوطن، الذي تكالب عليه الغريب والقريب ليسهل أمر ابتلاع الأرض. يقطن البلدة نحو ستة آلاف مواطن، بالإضافة إلى ستة آلاف طالب عدا عن الموظفين اليوميين، الذين يأتون إلى البلدة في الصباح ويغادرونها مساء. تزامن وصولي مع نهايات برنامج أسبوع التراث التاسع. والتمسك بالتراث أصبح أحد أوجه المقاومة للاحتلال.
بيرزيت تمثل للفلسطينيين ما تمثله أكسفورد بالنسبة للبريطانيين أو بوسطن بالنسبة للأمريكيين. فجامعة بيرزيت هي الجامعة الأعرق في فلسطين والأكثر جاذبية والأعلى رسوما والأكثر تنافسية على القبول. منها تخرج القادة الميدانيون أمثال مروان برغوثي والآلاف غيره، وفي جامعتها نشأت الحركة الطلابية التطوعية التي أصبحت مادة الانتفاضة الأولى ونيرانها. أبناء بير زيت متعلقون بها لا يستطيعون فراقها طويلا، كما قالت لي المغتربة ريما جاسر، التي تعود في الصيف هي وأولادها من الولايات المتحدة لتستمتع ببلدتها المشهورة بكثافة كروم الزيتون وكثرة معاصر الزيت، حتى سميت بير زيت تيمنا بثروتها الزيتية. «بير زيت بلدي ومسقط رأسي وتعلقي بها جزء من تعلقي بفلسطين – أقسم إنني سئمت الغربة، وقلبي وعقلي في بيرزيت بين أهلي وصديقاتي وقرب والدتي، وشجرات التين والزيتون التي تذكرني بالوالد المرحوم».
مهرجان التراث يجمع الأصالة بالإضافة إلى الحداثة. تتحول أزقة البلدة إلى معارض فنية وأدبية ومنتجات من إبداعات الشباب. الأثواب المطرزة بالحرير تعرض بطريقة فنية جذابة. الحرفيون والمنتجون يعرضون منتجاتهم في أكشاك منتشرة في الشوارع والجمعيات النسائية تساهم بمنتجاتها وأدبياتها في المعارض. وأجمل ما تقدم بيرزيت فرق الدبكة الشعبية الفلسطينية من الشباب والشابات الذين يحرصن على لبس الثياب المطرزة. لقد ساهمت جامعة بير زيت بحماية التراث الفلسطيني العريق والمتنوع حيث شكلت فرقا من المتطوعين، الذين جابوا القرى والأرياف والبوادي وجمعوه في مجلدات. كما أقروا مهرجانا سنويا في الجامعة تحت عنوان «ليالي بيرزيت»، حيث تتنافس الفرق الشعبية من كافة أنحاء فلسطين على من يعرض التراث الغني بطريقة إبداعية أعلى، وقد حصلت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية التي أنشئت أولا في الجامعة على العديد من الجوائز، ثم أنشئت مدارس لتعليم الدبكات الشعبية وجمع التراث وحفظه وإشهاره.
في مهرجان التراث سرت مع السائرين أتابع العرس الفلسطيني وموسيقى فرق الكشافة من بنات وشباب والتقيت بالعديد من الأصدقاء القدامى والمعارف، كان من بينهم الأب عطا الله حنا الذي لا يترك مناسبة وطنية إلا وكان مشاركا أو خطيبا أو راعيا. زرت طاحونة قديمة للقمح ومعصرة زيت توقفت عن العمل قبل 15 سنة، ثم تحولت إلى قطعة للعرض في متحف التراث. وقد حرصت بلدية بيرزيت على حماية البيوت القديمة من البيع أو العبث بها، كما أخبرني رئيس البلدية الدكتور جوهر الصايج، الأسير المحرر والطبيب الجراح. «البيوت القديمة الآن يمنع بيعها. البلدية تعمل على ترميم تلك البيوت والحفاظ عليها». يفتخر الدكتور جوهر ببيرزيت ومساهماتها في الحفاظ على النسيج الوطني، الذي تعتبر البلدة أجمل تعبيراته: «كانت البلدة في الأصل تضم أربع عائلات مسيحية وعائلتين مسلمتين. لا توجد حارة للمسلمين وأخرى للمسيحيين، كان الاندماج شاملا. وقد تستغرب أن جميع حفلات الأفراح للمسيحيين والمسلمين كانت تقام في ما مضى في ساحة الجامع. بعد نكبة عام 1948 وصلت البلدة أعداد من اللاجئين. رفضنا أن نصفهم بهذه الصفة، بل تبرعت البلدة لهم بقطع أراض بنوا عليها بيوتا متواضعة وأصبحوا هم وأولادهم جزءا من نسيج البلدة لا فرق بينهم وبين مواطنيها الأصليين».
هذا هو الشعب الفلسطيني الأصيل الذي يتمثل في هذه البلدات المناضلة، فكلما التقيت بأمثال أبناء بيرزيت، ازددت قناعة بأن هذا الشعب عصي على الكسر محصن ضد الهزيمة والانهزام مهما تكالب عليه المتآمرون قريب الدار منهم أو بعيدها.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز في نيو جرسي.