رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين
في تلك الليلة يوم 13/9/1993، وبعد التوقيع على اتفاقية اعلان المباديء بين حكومة اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، والاعلان على إنهاء عقود من المواجهة والنزاع والاعتراف المتبادل بحقوقهما الشرعية والسياسية، والسعي للعيش في ظل تعايش سلمي وبكرامة وامن متبادلين، ولتحقيق تسوية سلمية عادلة ودائمة وشاملة ومصالحة تاريخية، واعلان فترة انتقالية تنتهي بعد خمس سنوات بحيث لا يتم تغيير او الاجحاف بالوضع القائم، هدمت قوات الاحتلال عدة منازل في قرية كيسان قضاء بيت لحم تحت إدعاء انها بنيت على أراضي اصبحت املاك غائبين استولت دولة الاحتلال عليها.
البدوي ابو سلامة من سكان قرية كيسان شارك الناس في الأفراح وبهجة التوقيع على إعلان المباديء وفتح صفحة جديدة من الصراع، ووزع الورد واغصان الزيتون على جنود الاحتلال المنسحبين من المدن الفلسطينية التي اكتظت بالمسيرات والهتافات للسلام المأمول ولطي اوجاع الحرب وتحقيق الاحلام المشروعة العادلة للشعب الفلسطيني.
استيقظ ابو سلامة في تلك الليلة مذعورا على صوت الجيش الاسرائيلي وهدير الجرافات وحصار بيته باعداد كبيرة من الجنود والكلاب البوليسية ، ليسألهم مبهورا ماذا تريدون؟ فرد عليه الضابط العسكري : جئنا لهدم بيتك المخالف لقوانيننا العسكرية، فصرخ ابو سلامة : يا خواجا يوجد سلام، وقعنا معكم على سلام ومصالحة ،فما كان من الضابط الا ان قال له: يا ختيار هناك ثلاثة اشياء لن تراها طوال حياتك: عين النملة ورجل الحيّة والسلام.
هدم بيت ابو سلامة في قرية كيسان ، قرية الفقراء والمهمشين والمنسيين وتوالى هدم الكثير من المنازل، ونصب البوابات على مشارفها، فلا يستطيع احد الوصول الى البيت او الارض الا بتصريح، وتوسع الاستيطان على اراضيها ، وجرفت مئات الدونمات ، واصبحت الثروة الحيوانية مصدر رزق سكان القرية مهددة بالانقراض ، وصارت كيسان كغيرها من القرى الفلسطينية معزولة عن محيطها الفلسطيني ، جزيرة وسط بحر الاستيطان الهائج في الضفة الغربية والقدس.
منذ ذلك الوقت لم ير الشعب الفلسطيني سلاما ، واصبح السلام الذي توقعه الناس هو شكل آخر للحرب والسيطرة وتعميق الاحتلال ، فلا عين النملة ولا رجل الافعى ولا لون البحر ولا أزهار اللوز ولا جثث الشهداء، يستطيع احد ان يراها سوى في أحلامه الحبيسة هناك في إحدى زنازين سجن عسقلان.
منذ اتفاقية اوسلو المعطيات والاحصائيات مخيفة ، فهي ليست أرقام بقدر ما هي مشانق موت سياسي يتعرض له الشعب الفلسطيني و حقوقه المشروعة العادلة، وقد أصبحت الفكرة صغيرة بصغر الجغرافيا المحاصرة والمعازل المحشورة والانتهاكات المتصاعدة واستهداف الهوية الوطنية والارض والانسان.
لم يبق البدوي ابو سلامة على قيد الحياة ، مات مقهورا ومصدوما ومقتولا، فعدد المستوطنين ارتفع في الضفة الغربية الى 750 الف مستوطن بعد اتفاقيات اوسلو، لتبرز سياسة الاحتلال الاستيطاني والتهجير والتمييز العنصري الابرتهايد.
البدوي ابو سلامة لم يعد يعرف ان الاستيطان تضاعف بنحو 600% منذ توقيع اتفاقية اوسلو الى درجة أن دولة للمستوطنين اقيمت الى جانب دولة الاحتلال العسكري، وان مجموع المستعمرات والبؤر الاستيطانية التي اقيمت بعد اتفاقية اوسلوا عام 1993 في الضفة الغربية والقدس 119 مستعمرة وبؤرة استطانية هذا غير الآلاف من الوحدات الاستيطانية وتوسيع المستوطنات ، والحديث عن حل الدولتين اصبح حديثا عن اوهام معلقة في السماء ليست لها اقدام على الارض.
البدوي ابو سلامة، لم يعد لديه بيت ولا مرعى لماشيته، بل لم يعد ير البحر الميت من على جبال قرية كيسان الفقيرة، ومنذ ان هدم بيته ليلة السلام التاريخي وصل مجموع البيوت التي هدمتها سلطات الاحتلال في الضفة الغربية والقدس الى اكثر من خمسة عشر الف بيت، ولا تزال الجرافات الاسرائيلية تتحرك وتنقض على المنازل.
البدوي المقتول ابو سلامة لا يعلم ان سلطات الاحتلال اعتقلت منذ اتفاقيات اوسلو وحتى الآن ما يزيد عن مائة الف حالة اعتقال من الفلسطينيين، وان مجزرة قضائية تمارس في محاكم الاحتلال العسكرية بحق المعتقلين والجميع مدان مسبقا، ولا يعلم ان اولاده واحفاده اصبحوا داخل السجون، وان غالبية الجيل الذي ولد بعد اتفاقية اوسلو قد دخلوا سجون الاحتلال.
البدوي ابو سلامة لا يعلم ان كريم يونس لم يفرج عنه حتى الآن، وكان قد اعتقد انه في ليلة المصالحة والسلام لن يبق اي اسير داخل السجون، وقد مضى 35 عاما على اعتقال كريم يونس وآخرين وان احكام المؤبد طفحت واشتدّ الظلام.
البدوي ابو سلامة لم يعد يدري ان آلاف مؤلفة من الشهداء قد سقطوا منذ توقيع اتفاقية اوسلو، موت كثير ودم كثير، ومذابح وجرائم رهيبة ارتكبت في قطاع غزة ، وان الشهداء مطاردين وملاحقين ومحتجزين ليصيروا قوالب ثلج في ثلاجات اسرائيل او غبارا في مقابر الارقام، وان الصلاة في المسجد الاقصى اصبحت مطاردة، صلاة على الرصيف ، بوابات الكترونية ، كاميرات ذكية، اغتيال للصلاة والعبادة ولآيات الرحمن الرحيم ، قانون جائر يسمى القدس الموحدة.
البدوي ابو سلامة غادر الدنيا ، لم يمر عن 452 حاجزا عسكريا تعرقل حياة الفلسطينيين، لم يقفز عن السواتر الترابية والمكعبات الاسمنتية المنصوبة في الطرق وبين القرى والمدن الفلسطينية ، هي ساعات طويلة في شوارع التفافية للوصول الى اي مكان ، وغالبا لا يتم الوصول.
البدوي ابو سلامة لم يشهد جنازات المعدومين على الحواجز خارج نطاق القضاء، ولا جنازات 28 اسيرا سقطوا داخل السجون منذ اتفاقيات اوسلو قهرا وتعذيبا ومرضا، فالحياة منذ المصالحة التاريخية دخلت الى تابوت او قبر معتم.
البدوي ابو سلامة لم يبق له ينابيع او آبار مياه، فقد دمرت وجففت في تلك التلال والوديان الصخرية الجميلة في قرية كيسان الجالسة كما يقول المؤرخون على بحر من ماء، لقد سرقوا المياه واصبحت حصة المستوطن من المياه 800 لتر يوميا مقابل 45 لترا للمواطن الفلسطيني.
البدوي ابو سلامة العائد من فرح اوسلو وقد ايقظته المجنزرات والدبابات لم يشهد مرحلة الهجوم على مخصصات الاسرى و الشهداء والتحريض الاسرائيلي لإدراجهم كإرهابيين مطلوبين احياء و امواتا، ولم يشهد الهجوم الاسرائيلي على مناهجنا التربوية لشطب اغاني الدلعونا وذكريات وذاكرة النكبة والنشيد الوطني الفلسطيني.
البدوي ابو سلامة لن ير عين النملة ولا رجل الحيّة ولا السلام, ولن ير منظمات الارهاب اليهودي التي تقتل وتخطف وتحرق وتعتدي على السهول والحقول وتلقى الحماية والدعم من حكومة الاحتلال.
البدوي ابو سلامة
مقتول على كل الجبال
ابو سلامة مقتول على الارض المشاع
وكان وجهه مشققا
عليه يقسم الجياع