بقلم: تيسير نصر الله/ عضو المجلس الوطني الفلسطيني.
الكتابة عن الراحلة "الست" لواحظ عبد الهادي تعني الكتابة عن جيل بأكمله، والدور الذي قام به هذا الجيل منذ البدايات، عندما تفتحت عيونهم على واقع تقسيم الوطن العربي بعد اتفاقية سايكس – بيكو، ووعد بلفور المشؤوم، وبدء تشكُّل الحركة الصهيونية، ومدّها بكل أسباب المنعة والقوة من قبل دولة الإنتداب البريطاني لفلسطين، لتنمو فوق أرضنا كالخلايا السرطانية.
نشأت " الست" لواحظ متمردة على الواقع، واكسبها هذا التمرد صلابة فكرية من نوع آخر، وبدأت تكتب تاريخها بمداد من عز وكبرياء، وتحفر اسمها بمعول من مجد وانتماء، وتشق طريقها رغم كل الصعوبات التي واجهتها في مرحلة الطفولة والشباب، فكانت نجمة مضيئة في سماء فلسطين، أنارت بعلمها ونضالها درب الآلام الذي سارت فيه هي وشعبها المُعذّب، فحاولت أن تُخفف عنه جزءً من معاناته التي فُرضت عليه بحكم صراع المصالح بين الدول الكبرى، فخاضت غمار النضال والكفاح منذ صغرها، ودفعت ثمن ذلك شتى صنوف الملاحقة البوليسية والعذاب، ولكنها صمدت في وجه جبروت قوة الإحتلال الظالمة، بل كانت أشد مضاءً من كل إجراءات الذل والهوان التي عملت على فرضها سلطات الانتداب والاحتلال معاً.
وأنا أُبحر الآن في عالم "الست" لواحظ، أجد نفسي أنتمي إلى هذا العالم، حيث البراءة والطهارة والصدق، أجدني أغوص في دنيا العطاء والنقاء والوفاء، وأعيش في ميادين الوعي والثقة بالنفس وصفاء الروح، وأبحث عن معاني العطاء والتضحية والفداء في سهول الأمل، وجداول الطموح، ووديان الإرادة، فأجد نفسي بين ثنايا هذه المرحلة أحمل تفاؤلي وأمضي، وانفض غبار روحي وأمضي.
هنا نشأت "الست" لواحظ وترعرعت، وصدح صوتها بأناشيد الحرية، وغنت للوطن المسلوب أغاني الحياة. فلم تكن إمرأة عادية، بل كانت إحدى رموز جيلها، هذا الجيل الذي إمتاز بالصلابة، والانفتاح، وعدم الخضوع أو السكوت ..
نفتقدها ونحن نُحيي ذكرى رحيلها، وإنسحابها ببطء من مشهد الحياة، ولكننا ندرك أنها تركت بصمات واضحة في مسيرتها النضالية والتعليمية والتربوية والمؤسساتية، وستبقى ذكراها خالدة في نفوسنا، وكأننا في هذه اللحظات على موعد مع إلقاء كلمة لها في إحدى المناسبات الوطنية، نراها تُعد كلمات خطابها بهدوء، وتكتبه بخط يدها الجميل والمرتب، تقف أمام الناس بتواضع شديد وأناقة ملفتة للنظر، تُلقي خطابها بكل ثقة وهدوء، وبلغة عربية فصيحة تخلو من أية أخطاء لغوية أو قواعدية، وبصوت مخمليّ ذو نبرات تنسجم مع طبيعة الكلمات التي تخرج من فمها، كان كل من يستمع لها يُنصت إليها بإصغاء، لأنها، باختصار شديد، كانت تفرض حضورها اللافت على الجميع.
ونحن نُكرّم هذه المرأة المناضلة ونُحيي ذكرى رحيلها، فإننا نقف أمام عطائها وتفانيها بخشوع، نستذكر سيرتها العطرة ونمضي للأمام لنستلهم منها خير العبر، وأفضل الدروس، نستذكرها في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين: معلمة ومديرة ومربية، وفي جمعية الإتحاد النسائي العربي: رائدة إجتماعية ونسائية، وفي لجنة المؤسسات الوطنية: مناضلة وقائدة وطنية.
وأخيراً،، ستبقى "الست" لواحظ حاضرة في تفاصيل مشهدنا الفلسطيني رغم غيابها ..