وانت تسير في شوارع المدن والقرى .تأسر قلبك وعيناك ، منازل شائخة ووحيدة. غطت جدرانها ألالوان القاتمة ،تكسر زجاج نوافذها. أخذت اشجار وازهار حدائقها الطريق إلى فوضى الشكل أو اصفرار التفاصيل. تسلل الصدأ إلى بابها الرئيس .تمدد بلاط الساحات بإتجاه الأعلى .شاخ صهريج الماء الواقف على سطحها. تحودب جسم عمود التلفاز الذي كان يراقب الشارع الرئيس . غابت الأحرف والنقاط عن الآرمة التي كانت تحمل اسم المؤسس .
اقف بإستمرار أمام هذا المنظر المؤلم طويلا.واحتفظ بصورة منه في الذاكرة . اعرف ان مصير معظم هذه البيوت سيكون الهدم أو الموت أو البيع .
كمؤرخ وكاتب قمت بدراسة مسيرة وحياة عشرات البيوت .وآمنت أن لها أعمارا افتراضية محددة. وعلى خطى معلمي خالد الذكر "عبد الرحمن بن خلدون" (808ه) .سأحاول وضع نظرية مقترحة لحياة "بيت العائلة":-
أولا :"الجيل المؤسس ":- تعود على شظف العيش والصبر ، موهوب،قوي الشكيمة. ظلل الحب والتعاون ظروفه .سلم أعضاء العائلة لهذا الجيل بالملك والحكم.
شيد الآباء بيتهم بالجهد والصبر والعرق والدموع . وأنجبوا أولادهم. وراقبوا أعمارهم وأحلامهم وآمالهم وآلامهم. ويبلغ عمر هذا الجيل من (40 إلى 50 عاما) .
ثانيا "جيل الأبناء ":- يتميز أفراده بالدعة والترف. غاب من ذاكرتهم، عهد البدايات وتضحيات الآباء والأمهات. وسهرهم وخوفهم وجهدهم . تزوجوا وخرجوا بفعل عوامل الاستقلال أو الانفصال عن "بيت العائلة" .وبقي الآباء والأمهات في بيتهم. تظللهم الوحدة والألم يزورهم الأبناء في فترات متقطعة. اوخلال المناسبات والأعياد وأيام المرض والتعب .ثم تأخذ اللقاءات بالتباعد بفعل التفاصيل أو الغربة. ويبلغ عمر هذا الجيل من (25 إلى 30 عاما ).
ثالثا "جيل الهزيمة أو النهاية ":- يأخذ الله أمانته. ويموت الجيل المؤسس. ويصبح "بيت العائلة" مأوى للطيور والحيوانات الضالة والاليفة. يتسلل التراب إلى شاشات التلفاز ، والبراويز المعلقة .وتصدأ الغسالات والثلاجات وأدوات المطبخ .ويذوب الدهان عن الجدران .ويعلو صوت ازيز مقابض الأبواب والنوافذ.
تخبو علاقة جيل الأبناء مع المكان .ويتفق الجميع على التخلص أو بيع "بيت العائلة" .يشتريه مستثمر تاجر. يسرع في تدمير كيانه. ويحوله خلال دقائق أو أيام معدودة إلى ركام حزين .تتناثر أشلاؤه في كل اتجاه . ولن يبقى من جسده ، سوى ذكريات ستزول رويدا لا محاله .
سيسمع الناس بين الفنية والاخرى .تمتمات لجار قريب أو تائه مجهد ، يجوب موقع المجزرة :"هنا كان بيت فلان ، اولاده باعوه ، وتناثروا ، أو تشتتوا في مساحات الدنيا الواسعة ".
يا الله ،كابوس يولج داخلي. أهكذا ستكون نهايات بيوتنا التي شيدناها؟. أهكذا سيغتالون سيمفونية العمر الجميلة ؟. أهكذا سيسحقون صورة الذكريات التي تقبع في الذاكرة ؟ أين سنودع أحلامنا وآمالنا وضحكاتنا التي كانت تسكن "بيت العائلة "؟. السلام على الشهداء من الآباء والأمهات !!!الشفقة على مجموعة من الجلادين والقتلة. ربما سيشبهون اولادنا ،أو أحد معارفنا. ربما !!!".