الرئيسية / الأخبار / فلسطين
الحاجة نصرة أُم محمد: " الوجع مسار حياتي" بقلم براء أحمد أبو حماد
تاريخ النشر: الثلاثاء 17/10/2017 11:50
الحاجة نصرة أُم محمد: " الوجع مسار حياتي" بقلم براء أحمد أبو حماد
الحاجة نصرة أُم محمد: " الوجع مسار حياتي" بقلم براء أحمد أبو حماد

الحاجة نصرة أُم محمد: " الوجع مسار حياتي"
بقلم براء أحمد أبو حماد

تفاصيلٌ رسمت ملامح التعب على وجهها، عيونٌ متعبة تخفي خبايا حكاياتٍ أليمة تستوطن عقلها دون شرودٍ منها، وضحكة تداري وجع السنين، ماضٍ أليم تجلى بفقدٍ يتلوه فقد إلى أن استنفذت الروح قواها.
تعود بالذاكرة إلى مكانٍ بعيد، تقول لي وكأن الحزن قرر أن يستمع لها، كانت ضحكتها المرسومة على وجهها وكأنها تعيش لحظة اليوم، "بدأ الأمر حين ذهبت لأبيع حبات التوت وقد رآني أحد الجيران، كان غريب الملامح بالنسبة لي، علمت فيما بعد أنه يراقبني بصمت منذ فترة، استوقفني ليشتري ما تبقى لدي، بعته وعدت إلى البيت كما كل يوم، حين وصلت استدعاني أبي ليخوض حديث لطالما تجنبته، قال لي أنه تقدم لخطبتي شابٌ مستور الحال، وأن أهله محترمون ولا يعيبهم شيء، قلت له ورأسي يكاد أن يسقط من الخجل، ما تراه خيرٌ لي فأنا موافقةٌ ولا اعتراض لي عليه، علمت عندما جاء لخطبتي أنه الرجل ذاته الذي استوقفني لشراء التوت، كان ينتظر الرد من أبي منذ بضعة أيام.

 

تمت مراسيم الزواج للفتاة نصرة (ام محمد لاحقا) وهي فتاة بروح طفلة، لم تكن قد أنهت عامها السادس عشر بعد، كان أكبر همومها أن تبيع سلة التوت كاملة قبل العودة إلى منزلها مساءاً، إلا أن الفترة الانتقالية بين مرحلة الطفولة وتعب البيع في النهار إلى مرحلة حب واهتمام رجل بها راقت لها، بدأت تعتاد وجوده في حياتها، يعطيها ما ترغب به، ولا ترد له طلب، كان حبهم يخالف ما اعتادته تقاليد المجتمع، يمسك بيديها عند عبور الشارع بإبتسامة لا تغيب عن وجوههم، عيونٌ الناس دائماً تناظرهم، وحسد يطالب بزوال ما هم عليه.
لحظاتٌ لن تتكرر..
كانت اللحظات التي يمرون بها تخبرهم بطريقة ما أنها لن تتكرر، عاشوا ما يقارب الشهر والنصف داخل بيت يملأه الحب والاحترام المتبادل، إلى أن طرق باب الفقر حياتهم، ليغربّهم حاملاً معه أنين الاشتياق والوجع.
ازدادت أعباء المنزل على عاتق زوجها سميح، فقرر أن يخوض رحلة عبر الزمن، حتى يستطيع تأمين حياة كريمة له ولمستقبل حياتهم، سافر إلى العراق، يعمل وفكره في مكانٍ بعيد، وكذلك الأمر بالنسبة لها، قالت لي " كنت أشعر بوجوده بجانبي في كل وقت، أشعر بضيقٍ عندما يستعصي عليه شيء، انتظر كل يوم سماع خبر عنه".
كانت تشارك من حولها الابتسامة إلى أن يعُم هدوء الليل، تتذكره بدعاءٍ في سجدة، تناجي الله كثيراً ليعيده إليها حتى يطل صباح النهار.
أضافت وهي تضحك على حنكتها بمعرفة بعض الأمور قبل حدوثها، "استيقظت ذات يوم وأنا أشعر بشيء غريب، إحساس لا يمكن أن يَخيب، شعرت أنه قريبٌ مني، حتى دق الفرح باب المنزل، وأثبت لي صدق شعوري، نعم كان هو.. قال لي أن سبب تأخره عني إغلاق الحدود التي حالت بينه وبين تحقيق وعده لي بالعودة لأخذي معه إلى العراق، وأما الآن فقد حان الوقت الذي سننتقل به معاً، كان خاتمي الذهب السبيل الوحيد لسفرنا، بعته و ملامح البهجة على وجهي لكي لا يشعر بأنه ظلمني ببيعه".
أضافت "كانت أحد أجمل لحظات حياتي عندما أعلمتنا "الداية" بوجود نبض لروحٍ بداخلي، طفل نعيش لأجله، نهبه كل ما لدينا، نشاركه الحب ونعلمه إياه".
شاركهم الجنين طرقات السفر، إلى أن وصلو بلاد الرافدين، عاشو في غرفة مستورة الحال، يعملون طوال اليوم لسد إيجار العيش في داخلها، لم يشتكوا الوضع، كان وجودهم بجانب بعض سبب سعادتهم.
اقترب موعد قدوم محمد عليهم، أقبل بوجه عريض، جميل الملامح، لكن جسمه هزيل كما روحه تماماً، استعصى عليها دخول المستشفى في ذلك الوقت بسبب الأحوال المادية الصعبة، وكان ذلك سبباً في رحيله بسبب مرضه، قضى بجوارهم أربعة أيام إلى أن فارقت روحه الحياة، كان رحيله الوجع الأول الذي يقابلهم.

 

ما تبقى لدي من الحياة..

تكمل حديثها "بدأت حياتنا تتحسن حين فتح سميح "بسطة" من القماش، وكأن الدنيا فتحت لنا ذراعيها، عشنا أيام لا تنسى في ذلك الوقت، تسترسل حديثها ولمعة الحب والامتنان في عينها، جاء إلي حياتنا طفلٌ أخر، قررنا بتسميته محمد ليحيا بيننا محمد من جديد، هو الأن أجمل ما في حياتي، الشخص الذي أدعو الله دائماً أن يحفظه لي هو وزوجته وأولاده".
لم يمضي وقتاً كثير على نظرة فرحها بنجلها محمد، إلى أن استبدلتها بدمعة تحرق القلب حين بدأ الأمر يخص زوجها سميح تقول، "إختار وجع الخواصر أن يصيب سميح في إحدى الليالي، لم يكن ذلك الوجع الذي يحتمل، ولم تفي مشروبات الأعشاب بالغرض، ذهب إلى المستشفى وحيداً، قضى هناك ما يقارب الخمسة أيام، رافقتني الكوابيس طوال تلك الفترة، مرت الخمس أيام والله وحده الذي يعلم بحالي، لم تكن هناك وسيلة للتواصل ولم أحتمل جلوسي مكتوفة اليدين دون أن أسمع خبراً عنه، إلى أن أفرجها الله علي، عندما ساعدني أحد الجيران للوصول إلى زوجي والاطمئنان عليه، توجهت صوب غرفة سميح، كان السرير فارغ لا زلت أذكر كيف سقط قلبي ارضاً في تلك اللحظة".
بدأت بتفتيش غرف المستشفى واحدة تلو الأخرى، تبحث عنه وتنادي بأعلى صوتها، استوقفتها الممرضة التي أشرفت على حاله و ملامح الحزن على وجهها لتخبرها برحيله عن الحياة، أخبروني أنه أجرى عملية "الزائدة" منذ اليوم الأول، استيقظ وكل شيء فيه يبحث عن الماء، شرب منه حتى ارتوى دون علمنا بذل، مرت الخمس أيام والبنج يصاحبه، لم يتمكن من إخراج ما شربه، فترك كل شيءٍ ورحل، رحل وخلفه روحٌ لا زالت تنادي باسمه.
أضافت والدمع يكاد أن ينزل من عينها "عدت الى البيت وشريط ذكرياتنا يمر أمام عيني، لحظات الحزن والفرح، كل شيء في داخلي عاجزٌ عن التصديق، كيف يرحل السبب الذي أعيش لأجله، كيف يرحل من كنت أهرب إليه حين تضيق بي الدنيا، فقدت اللحن و المغنى في غيابه، كان الوجع الأكبر الذي لم يساندني عليه، بل كان هو السبب فيه، ترك كل شيء فارغ بلا طعم، رحل وترك مرشد الذي لم يقبل على الحياة بعد دون أب، فقد علمت أنني حامل بالشهر الثاني بعد رحيله بأيام قليلة.
الأيام تتوالى على نصرة، عادت إلى أهلها في قرية كفل حارس تعلمت من الحياة ما يمكنها من تربية نجليها محمد ومرشد، كان تلبيس العرائس السبيل الذي ترتزق منه، ومن ثم الخياطة، حتى وجدت نفسها ومهارتها في مهنة "بداية القش" التي لم تزل تعمل به حتى هذه اللحظة، فاستطاعت من خلالها إشغال نفسها واستبدال حزنها بلوحات جميلة ترسمها بعيدان القش وتتاجر بها.


كانت أم محمد مثالٌ للمرأة المكافحة الصبورة، تهب كل ما لديها لطفليها، تعمل دون مساعدة من أحد، اهتمت بتعليمهم، شاركتهم القراءة والكتابة رغم أنها أمية ، تعلمت منهم وعلمتهم بالاّن ذاته، كانت تعيش حياتها من أجلهم ومن أجل أن ترى البسمة على شفاهم.
تناقضت حياتها كما عملها تماماً، ابتدأت بتلبيس العرائس وختمت مشوارها بتغسيل الموتى، استبد الحزن على الفرح كما أحداث الحياة التي مرت بها قالت لي" والله يا ستي حتى مرشد كفنته بإيدي"، كان مرشد الطفل الذكي ذو السبعة الأعوام، لا يهاب شيء، يمزح كثيراً ويترك بصمة حب لكل من يراه، كان يلعب بطائرة الورق على سطح البيت، ينظر لها فرحاً نحو السماء وهي تطير، فقررت أن تأخذه معها طيراً من طيور الجنة،لحق بها وملامح الفرح تكسوه، لم ينته للحافة فرجع إلى الوراء حتى سقط أرضاً لتكون نهاية السطح هي أيضاً نهاية مرشد، هرعت مسرعة على أصوات الصراخ المتتالية خارج المنزل، رجف كل شيء في داخلي عندما رأيته متمدداً على الأرض ليقول لي كلمته الأخيرة "يما فش في إشي بس قلبي بوجعني كثير" كانت هذه الجملة كافية لقتل ما تبقى بي من روح..
 

المزيد من الصور
الحاجة نصرة أُم محمد: " الوجع مسار حياتي" بقلم براء أحمد أبو حماد
الحاجة نصرة أُم محمد: " الوجع مسار حياتي" بقلم براء أحمد أبو حماد
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017