كتبت بالماضي إما من خلال زاويتي "خرم إبرة" في"الأيام"، أو زاويتي "رسائل الى ولدي" على موقع شبكة راية الإعلامية عن ضحايا القتل أو الانتحار التي تزداد منذ بداية العام بازدياد سريع.. بأشكال وأدوات ترسم فضاء مسرح الجريمة بطرق خارج استدراك وقبول العقل البشري، لأننا أصبحنا نقتنع بأن الوحوش الضالة رحيمة على ذاتها فيما بينها أكثر منّا نحن كمجتمع!! كتاباتي السابقة كنت أنظر الى الضحية بسياقها الفردي وقضيتها التي هي قضيتنا كجزء من كل. هنا في هذا المقال سأحاول وضع تصورات اجتهدت باستنباطها من حوادث القتل والانتحار منذ بداية العام الحالي وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات، قمت بتأسيس روح وجسد المقال من خلال النظر الى الضحايا من منظور شمولي كُلي وليس جزئيا، أيضاً استمعت الى رواية قصص بعض الضحايا من بعض المقربين لهم وليس الاكتفاء فقط من خلال "الخبر العاجل لقصة مقتل الضحية".
أولاً: المجتمع الفلسطيني يعيش أوضاعا "اقتصادية واجتماعية" مضغوطة ومتفاقمة وبالإمكان ربطها بالأجواء السياسية أيضاً، تلد بسبب ذلك حالة احتقان تعصف في بنية العائلة "النووية" وتشتبك في بعض الأحيان مع العائلة الممتدة ثم المجتمع المحيط وهو "القرية، المدينة، المخيم". هذا الاحتقان تم تجميعه على فترات مختلفة ولم يتم وضع علاج له من قبل البيئة المحيطة ولا المؤسسات المختلفة _ هذا حدث مع أغلب الضحايا باللجوء الى عدد من المؤسسات_ التي يجب عليها تفكيك وإصلاح وحصار الاحتقان دون نموه وتفاعله ليلد بعد ذلك إنسان محبط يعتبر الموت هو أفضل حل لإنهاء المشكلة التي يواجهها.
ثانياً: حسب وجهة نظري_ وقد أكون مخطئاً_ ذلك الاحتقان المضغوط في بنية المجتمع، لم ينفجر بوجه الاحتلال الإسرائيلي كفعل مقاومة ضد الهيمنة في كافة جوانب الحياة، ولم يواجه وجهاً لوجه مباشرة مع السلطة الفلسطينية بما عليها من التزامات تجاه المواطن بقضايا الخدمات المختلفة من صحة وقضاء ..الخ مع الأخذ بعين الاعتبار بأن بعض قصص الضحايا بقيام القاتل بالمفهوم العام للقتل بخدش السلطة بحد ذاتها ضمن مفهوم الحق العام من حيث مكان الجريمة على الرغم أن الجريمة جريمة أينما تم تنفيذها.
على أي حال فقدان التعبير عن هذا الاحتقان أمام الجهات المسؤولة عن ولادته أدى إلى الانفجار الداخلي بأشكال مختلفة حسب نوع وطبيعة الاحتقان.
ثالثاً: ليس فقط القتل والانتحار مؤشرا من مؤشرات الاحتقان، وإنما هناك مؤشرات أخرى مختلفة تزداد مثل: السرقة، الطلاق، العنف في المدارس .. الجامعات.. الشارع وحتى في ملاعب كرة القدم، وأيضاً والأخطر ودون مجاملة هو العنف الأسري المتبادل بين أطراف العائلة وليس فقط على الزوجة، وإنما على الزوج أيضاً، وهناك عنف يقع على الأطفال من الأب والأم وهذا هو الأخطر. تلك مؤشرات الاحتقان الداخلي للمجتمع يجب النظر لها بالعقل وليس فقط بالعين، من يستخف بتلك المؤشرات ويقول بأن كل المجتمعات تعاني من هذه الظواهر أعتقد أنه بعيد كل البعد عن ما يسمى بالحس الجماعي لأي مجتمع من أجل استقراره، وبالتالي صعوده الى سُلم التنمية والتطور والحضارة، وبعيدا عن الإحصائيات المتزايدة لأي من تلك المؤشرات.
رابعاً: على الرغم أن الضحية الأساسية هي المرأة، إلاّ أن الضحية الأكبر التي لم ينظر لها الأغلبية سوى فقط بالتعاطف "المؤقت" هم أبناء القاتل والضحية، وخصوصاً بأن الواقع الاقتصادي لأغلب العائلة "الممتدة" التي سترعى الأطفال هي أوضاع اقتصادية صعبة بالأساس فكيف سيتم التعامل معهم من حيث التنشئة بغياب أساسي للأب القاتل والأم الضحية.
خامساً: الاحتقان يتطلب مضادات احتقان موضعية وحلولاً سريعة ومعالجات إبداعية، وأيضاً على المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية صاحبة الاختصاص بوضع برامج طويلة الأمد تتعامل مع هذا الاحتقان بشكل علمي طويل الأمد، وليس جمع تواقيع فقط لطلب تنفيذ عقوبة ما، فالقضية حسب رأيي أكبر من توقيع وعقوبة مقارنة بما يجب أن يعالج من أساسه بسبب حالة الاحتقان المجتمعية، ويكون هذا التحرك مبنياً على إدراك أسباب ازدياد العنف المحتقن، كي تتم المعالجة بطرق جديدة على أسس علمية غير تقليدية.
وهنا أطلب من الجهات ذات الاختصاص دراسة واقع ظروف الحياة السابقة للقاتل والضحية لاستخلاص الدروس والعبر ومكافحة الاحتقان بطرق علمية وليس فقط شعارات وإعلانات ومشاريع واهية لا تؤدي الى الغرض المطلوب بقدر ما يتم الاستفادة منه كمؤسسة بأنه مشروع يبدأ وينتهي فقط.
لا بد من تحويل بوصلة الاحتقان إلى طرق تؤدي الى الخروج من هذا المأزق وبناء الأمل، علينا التخطيط بنشر ثقافة مضادة ضد هذا الاحتقان الذي يغلي من أجل تخفيفه وإنهائه.