الرئيسية / الأخبار / فلسطين
نواف العامر ... شاهدٌ على إبعاد مرج الزهور
تاريخ النشر: الأربعاء 20/12/2017 21:20
نواف العامر ... شاهدٌ على إبعاد مرج الزهور
نواف العامر ... شاهدٌ على إبعاد مرج الزهور

كتبت اية الناشف

يجرّ خطواته بتثاقل، فقد أنهكه طول الغياب وشدّة التّعب، ماضٍ في طريق اليوم الثلاثين لإبعاده إلى مرج الزهور، تلك القرية التي ذاق جحيم الغربة فيها، ولم يكسره شيء في دربه أكثر من رؤيته عشرين طفلاُ يلعبون في أرجاء المكان، ففي أعينهم رأى طفليه القاطنين هناك بعيداً عنه، ليعود إلى خيمته حاملاً معه بالوناً صغيراً خطّ عليه اسمي ملاكيه الصغيرين بدموعه، ليطلق له العنان فيطير مع أدراج الرياح، علّه يصل ويروي لهما حكاية أبيهم المبعد، تلك التي رآها في رحم أمّه وهو يشاهد فيلم حياته للمرّة الأولى.
نوّاف العامر، الطّالب النّجيب، والشّاب العصامي، والصّحفي المناضل،رجلٌ خطّ في سيرة حياته الكثير من معاني الصمود والتحدّي، حقق نجاحاته بين ركام الألم والمعاناة التي لاحقت جلّ مراحل حياته، تنقّل من سجن إلى سجن، ومن عملٍ لآخر، تعدّدت عذاباته وتلوّنت انتصاراته، لتشكّل بمجموعها إنساناً مثقفّاً، واعياً، غيوراً على قضيّته ووطنه وأرضه، ولعلّ أبرز مراحل معاناته كانت بالإبعاد إلى مرج الزهور، فكيف أبعد؟ وكيف كانت حياتهم هناك؟ هذا ما سترويه لنا السطور القادمة.
مرج العقارب 1992م....
التاسعة صباحاُ، دق هاتف نواف المحمول أثناء عمله كمحاسب في شركة العنبتاوي، التقطه مسرعاً وأجاب، ففوجئ بمختار القرية على الخط المقابل، يخبره بضرورة امتثاله لأوامر الحاكم العسكري، والذي طلبه لمقابلة مستعجلة في مقر المقاطعة.
كان التوقع الأكبر الذي يسيطر على تفكيره هو الاعتقال الإداري، وفي المساء ودع أهله وأخبرهم باحتمالية أسره، وعقب ساعات وجد نفسه ينتصب ومجموعة من النخب السياسة أمثاله أمام مقر المقاطعة، عصب الجنود أعينهم، وتحت أعقاب البنادق اقتادوهم للحافلات العسكرية التي أطلقت دواليبها مع أدراج الرياح المتجهة شرقاً وتحديداً طريق وادي الباذان.

"كان الأصل بالحافلات أن تتجه من الطريق الشمالي، لكنها اتخذت المنحى الشرقي، ولشدة خبرتي بالطرق علمت ذلك حتى وأنا معصوب العينين" يقول العامر.

وصلوا بهم إلى منطقة المطلة الفلسطينية التي يسمونها "كريات شمونه"، وهناك أبقوهم يومأ كاملاً مقيدي الأيدي والأرجل للخلف، وخلالها طلب المحتجزون النزول لقضاء حاجتهم، وكان نوّاف أوّل الخارجين.
ويحدّث العامر "عند نزولي تمكّنت بالرّغم من العصبة التي تعيق رؤيتي، من مشاهدة أسلاك منتشرة في المحيط، وتضاريس جغرافيّة غريبة لا تشبه تضاريس فلسطين، فقلت في نفسي إنها جنوب لبنان، وفور عودتي أخبرت رفيقي أننا مبعدون لا محالة".
لم تمرّ دقائق قليلة حتّى سمع شاب يتقن اللّغة العبرية أحد الجنود يقول "ماجوراشيم" والتي تعني "مبعدون" فبدؤوا بالصّراخ والتكبير داخل الباص، حتّى وصلوا إلى معبر زمريّا -قرية لبنانيّة فيها حاجز إسرائيلي- وتم نقلهم مع ساعات الفجر الأولى تحت وقع الأمطار والثلوج إلى منطقة مرج الزهور.
"تبيّن فيما بعد أنّ الحكومة الإسرائيليّة أصدرت قراراً بتاريخ 17/12/1992 ينصّ على إبعاد 417 فلسطينيّاً إلى الجنوب اللّبناني، بعد أن قامت كتائب الشّهيد عز الدين القسّام بعمليّة أسر جندي، ومطالبة حكومة الاحتلال بإطلاق سراح معتقلين على رأسهم الشّيخ أحمد ياسين، قبل السّاعة التّاسعة من اليوم اللّاحق وإلّا قامت بتصفية الجندي، وفعلاً في مساء اليوم التّالي أعلنت عن قتله؛ ردّاً على عدم انصياع حكومة الاحتلال لمطالب الجهاز العسكري".
يتربّع مخيّم المبعدين بين أربع قرى، فيحدّه من الشمال قرية مرج الزهور السنيّة، ومن الجنوب زمريّا، ومن الشرق نيمس الدرزيّة، ومن الغرب لّبّاية الشيعيّة، كان عبارة عن منطقة صخريّة مائلة، منزوعة السّلاح، تجلس على كومة من الألغام، ليتبيّن بعدها من خلال الشّعارات والكتابات المحفورة على الحجارة، أنّها كانت مقرّاً لتدريبات حركة فتح قبل الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللّبناني.
ويسترسل نوّاف "ما إن وصلنا المكان حتّى شعر كل مبعد أنّه مقتلع من جذوره، ليس لديه أي آمال بالعودة إلى دفء الأهل والأسرة في ربوع الوطن، فما حلّ بنا شكل من أشكال الموت البطيء، بل صاعقة وقعت على رؤوسنا، فلم نكن نعهد المنطقة، ولم نعتد على بردها القارص، ولا عقاربها وأفاعيها الغدّارة".
لكن ومع أوّل خطبة جمعة ألقاها عبد العزيز الرنتيسي وقيادات المبعدين، تم تحديد شروط العودة والرؤية والرواية، ومع مطلع الأسبوع الأوّل، بدأت عمليّة استعادة روح الأمل من خلال الإيمان بحتميّة العودة وزوال الاحتلال.
اللّيلة الأولى 18/12/1992...
يغمض عينيه وكأنّ المشهد يحدث أمامه الآن ويقول "في أوّل ليلة للإبعاد، أحضروا لنا مجموعة من الخيام تكلّف عدد منّا ببناءها، كنت أحدهم وأذكر منهم وزير الداخلية سعيد صيام ، والنائب حسني البوريني، والشهيد محمود أبو هنود، وحسام أبو حيط.
"ولا يمكنني نسيان تلك اللّحظات أبداً، فبعد أن أنهينا مهمّتنا، لم نلبث أن وضعنا فرشات الاسفنج على أرضيّة الخيمة للنوم حتى امتصت المياه التي تملأ صخور مرج الزهور، وبالتالي كانت من نصيب أجسادنا، ولم ندري حينها كيف نمنا من شدّة التعب والتفكير بالأهل والوطن".

الرّسالة الأولى...
يجلس هو وسبعة من رفاق الألم والمعاناة على صخرة مائلة، شهدت معهم حجم الشّوق الممتزج بالقلق، والفرح المختلط بالحزن، وهم يخطّون رسالتهم الأولى إلى أهاليهم الحاضرين الغائبين دوماً.
فبعد برهة من الإبعاد سمح لهم ببعث رسائل إلى أهاليهم للاطمئنان عليهم وطمأنتهم.
يسرد نوّاف ودموع الذّكرى تملأ عينيه "أن ترسل أوّل مكتوب إلى أهلك بعد الإبعاد شعورٌ لا تصفه الكلمات، فكل مشاعر الحب والاشتياق والحنين والخوف تجتمع مرّة واحدة، وتذرك أسيراً لعذاباتك".
لم تمر فترة حتى تمكّن المبعدون من الحصول على هواتف محمولة مدّت جسور التّواصل بينهم وبين عائلاتهم.
جامعة المبعدين...
بضع خيم مصفوفة بجانب بعضها البعض على صخور متناثرة هنا وهناك، ولوحات تعليميّة نثر عليها مختلف الدّراسات والعلوم، مشكّلة أوّل جامعة في الإبعاد في تاريخ البشريّة، وهي جامعة شيخ الإسلام "ابن تيميّة"، والتّي عمل فيها دكاترة وأساتذة من مختلف المجالات، مثل الدكتور إبراهيم أبو سالم، وسالم سلامة، وعزيز دويك.
وفي هذا الصدد يتحدّث نوّاف "اللّجنة التعليميّة والتربويّة للمبعدين هي من تولّى عملية إنشاء الجامعة؛ ليكمل طلاب الجامعات فيها دراستهم التي حرموا منها على إثر الإبعاد، من خلال التّواصل مع جامعتهم الأم (النّجاح، الإسلاميّة، القدس،...) لاعتماد الشهادات التي يحصلون عليها، والامتحانات التي يقدّمونها، وهذا لم يقتصر على المتعلّمين في الجامعات فقط، بل تم تخريج طلّاب ماجستير أيضاً".
وكان ذلك يتم بدايةً عن طريق الاتصالات التلفونيّة، قبل توفّر الفاكس الذي سهّل عمليّة إرسال الأوراق إلى جامعات الضفّة وغزّة، لتصحيحها ورصد العلامات.
الإعلام المقاوم...
لم يكن الإعلام بعيداً عن أهداف المبعدين، بل كان من أهم الأسلحة التي استخدموها لتعريف العالم بقضيتهم ومعاناتهم، ومن أفضل الأساليب الضاغطة على المحتل، لإجباره على تحقيق مطالبهم، فكان هناك دائرة إعلاميّة خاصّة بالمبعدين، تكمن مسؤوليتها في جمع وإيصال كل أخبار المبعدين للوكالات عن طريق الاتصال الهاتفي، ثمّ باستخدام الفاكس فيما بعد.
"أجبر المبعدون القناة العالميّة CNN أن تستأذن لوضع محطّة بث مباشرة في مخيّم المبعدين، علمت حينها أهميّة الإعلام ودوره، وضرورة تسخيره في خدمة القضايا الوطنيّة والإنسانيّة" يسرد العامر.
لقد تعدّدت المواقف التي استغّلها المبعدون لإظهار وحشيّة الاحتلال عبر الإعلام، وكان من أبرزها الأمر الذي أصدره عبد العزيز الرنتيسي لمجموعة من الشبّان، للقيام بطهي بعض الأفاعي على الحطب أمام عدسات الكاميرا، ليرى العالم أنّ "إسرائيل" الديمقراطيّة تحرم الفلسطينيين من أساسيات حياتهم، وأبسط حقوقهم، وتنفيهم بعيدً عن أهلهم إلى منطقة وعرة بلا ماء ولا غذاء ولا أمان.


العودة...
حلّقت أرواح المبعدين نحو وطنهم، وعانقت أعينهم تضاريس الوطن على ثلاثة مراحل، كانت أولاها عودة الطفل باسم السيوري ابن 16 عاماً والذي أبعد بالخطأ نتيجة تشابه الأسماء إلى فلسطين بعد عشرة أيّام من نفيهم إلى مرج الزهور.
وفي هذا الصدد يقول نواف العامر "كنت من أوائل العائدين إلى أرض الوطن، حيث رجعت بعد ثلاثة أشهر من الموت البطيء الذي حاصر كل مناحي الحياة في المخيّم، مع ما يقارب 189من المبعدين، أمّا الدّفعة الأخرى فعادت بعد حوالي سنة من الإبعاد،عدا بعض الأشخاص الذين فضّلوا البقاء في الغربة على العودة إلى غياهب السّجون".


 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017