بقلم: علاء أبو ضهير
كيف سنمشي بالشارع بالقمباز! كيف سنضع الحطة والعقال على رؤوسنا ونمشي بهما بالشارع في طريقنا للمشاركة برحلة (حطة وعقال)! لماذا هذا النمط من الاحتفال بذكرى النكبة! لماذا لا يتم الاكتفاء بالمشاركة بمظاهرات شكلية يتم تنظيمها وسط المدينة كما جرت عليه العادة منذ عقود! راودتنا هذه الأسئلة وغيرها قبل التوجه للمشاركة برحلة (حطة وعقال) التي نظمها الصديق محمد دويكات مشكوراً، هذه الرحلة التي استوحت التاريخ الوطني والموروث الثقافي من خلال مفرداتها العديدة التي تم تداولها أثناء التجوال الذي استمر سبعة عشر كيلو متراً من رأس الفارعة إلى ما وراء أراضي طوباس الشاسعة.
صدم الأهل من محاولاتنا البحث عن ملابس تراثية قديمة، بل عانى بعضنا من البحث بالخزائن عن خرقة هنا أو قمباز هناك، بحث الجميع بخزائن الأجداد، علّهم يجدون حطة أو عقالا هنا أو قمبازاً أو شروالاً هناك، بل استهزأ البعض من المبادرة غير التقليدية لإحياء ذكرى النكبة.
اندفعنا للبحث عن الملابس التراثية التقليدية، من أين لنا بقمباز للمشاركة بالرحلة، فقد قررت إدارة الرحلة عدم السماح بالصعود للباص دون ارتداء لباس تراثي، تمكنّا أخيراً من العثور على بعض الملابس من هنا أو هناك، استعار البعض بعض الملابس من أقربائه وأنسبائه، توجه كثيرون للأسواق لشراء قمبازٍ ولم يجدواً، اتصل كثيرون ببعضهم للحصول على خرقة تراثية لارتدائها، فوجئنا بجهلنا بكيفية ربط القمباز أو وضع الوزرة على الوسط، أو حتى تثبيت العقال على الرأس. هذه التساؤلات وغيرها، كانت محور حوارنا خلال الأيام القليلة قبل الرحلة، وبقي ما هو أصعب، ألا وهو الحاجز النفسي، ُترى هل سنستطيع كسر هذا الحاجز ونشارك بالرحلة!
رغب الكثيرون بالمشاركة بالرحلة لكنهم لم يستطيعوا حسم صراعهم الداخلي واتخاذ قرارهم بالمشاركة، فعلى الرغم من العدد الكبير للمشاركين، (قرابة المائتين)، إلا أن عدد من كان راغباً بالمشاركة وواجه تحدياً نفسياً وصراعاً داخليا مع ذاته بشأن المشاركة كان أكبر من هذا العدد بكثير، لقد استطاعت هذه الرحلة أن تهز قناعات المترددين وتحفيزهم على إعادة النظر بخجلهم وترددهم إذا تم تنظيم رحلة تراثية أخرى في المستقبل. لقد ساهمت رحلة (حطة وعقال) بصقل شخصية المشاركين بها بشكل أو بآخر، وعززت لديهم الإنتماء للأرض التي مشوا عليها، ولعبت شخصية منظم الرحلة وزملائه دوراً كبيراً بإضفاء روح الأصالة والإنتماء لأرض هذا الوطن، وذلك من خلال ما بذلوه من جهد مميز بربط المشاركين بجذورهم، هذه الجذور المستوحاة من كلام الآباء والأجداد عن الأرض والهوية والتراث.
توجهنا لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية لمضارب البدو بمنطقة طوباس بغور الأردن، تلك المنطقة المنسية التي تبلغ مساحتها قرابة ربع مساحة الضفة الغربية والتي لا يعيش بها سوى ستون الفاً، هذه الأرض التي تسعى الحكومة الإسرائيلية لاستكمال السيطرة عليها ومصادرتها، منطقة تعيش النكبة المتجددة يومياً، فالحرمان من الماء يحول دون التوسع الزراعي والسكاني بها، لكنها تتمتع بطبيعة جميلة وسهول ممتدة وجبال شاسعة، منطقة جديرة بالاستثمار السياحي والزراعي، فهي سلة غذائية للوطن إذا أحسن استثمارها، وإذا أحسن تشجيع أهلها على الرباط على أرضها وعدم تشجيعهم على الهجرة للمدن بحثاً عن قوت يومهم بوظائف بائسة.
قدم البدو كل ما لديهم من كرم ضيافة وحسن معاملة، كان واضحاً ذلك الكرم البدوي الأصيل، فالكرم مرتبط بتقديم شئ متواضع ممن لا يملك الكثير، ولا يصبح ذلك كرماً إذا جاد به الثري.
تعبر حياة البداوة البسيطة عن الحياة الحقيقية، حياتنا في المدن هي الحياة الزائفة، حياتنا مليئة بكل ما ينافي الروح الإنسانية وينغصها، بينما يتمتع البدو بطيب المعشر وحسن الاستقبال ولطف المعاملة والصبر على ما لا ُيحتمل، يجب علينا أن نرتد قليلاً لجوهر هويتنا ومبادئنا التي كتب عنها الشعراء قصائد طويلة يحفظها البدو عن ظهر قلب، والتي تلخص جوهر الحياة ومضمونها الإنساني المتمثل بحب الارض والانسان.
قبل مغادرتنا مضارب البدو، رأينا أحد الزوار مرتدياً ملابس مدنية، إستغربنا (لا شعورياً) وجود هذا اللباس بين هذا الخضم من مرتدي الملابس التراثية، فأصبح هو الغريب وأصبحنا القاعدة، بينما كان هو الاستثناء.
تساءل أحدهم عن سبب إهمالنا للحطة والعقال وقد كان لهما شرف نشر قضيتنا خلال نصف قرن من الزمن وذلك منذ أن اعتمر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كوفيته الفلسطينية وجال بها عواصم العالم شارحاً قضية شعبه بالمحافل الدولية، لم نر منذ وفاته قائداً أو سياسياً أو مناضلاً يعتمر حطة وعقالاً، وكأن الحاجة لاعتمارها قد انتهت، وأصبحت بدلاتنا الإفرنجية معبرة عن هويتنا الجديدة المشوهة بسبب اعتقادنا المغلوط بأنها أكثر قبولاً لدى الرأي العام العالمي.
رأينا الكثير من قادة الشعوب يلبسون ملابسهم التراثية، لا زال القائد الكردستاني، رئيس إقليم كردستان العراق، يلبس ملابسه القومية بكل فخر، ويجول بها عواصم العالم، شاهدنا قادة عظام بمختلف دول أمريكا اللاتينية يلبسون لباسهم التراثي دون خجل أو تردد، وكذلك أمة اليابان التي لا زالت تفتخر بملابسها التقليدية المستوحاة من تراثها العريق.
أتمنى أن نعود للبس الحطة والعقال والقمباز يوم الجمعة على الأقل، ولماذا لا نطلب من رئيسنا اعتمار الحطة والعقال أسوة بقرار الثورة الفلسطينية عام 1936، وكذلك أسوة بالشهيد القائد ياسر عرفات، لنستثمر ما قام به من جهد طويل بصناعة صورة فلسطين عالمياً، تلك الصورة التي اقترنت بالحطة والعقال والتي تعرّف العالم علينا من خلالها.
يلبس أخوتنا أبناء الطائفة السامرية ملابسهم التراثية المكونة من قمباز شامي وطربوش عثماني ويتجهون للصلاة بمعبدهم يوم السبت، وقد أصبح لبس هذا اللباس واجباً على كل منهم، كذلك هو الحال لدى اليهود وقت الصلاة. رأينا الشعوب القفقاسية والقوقازية والتركية واليونانية تفتخر بملابسها التراثية وتستوحي تراثها بشتى السبل، آن الأوان لعودة محمودة لتراث مقاوم، فالتراث فعل مقاوم يتم تجنيده للدفاع عن الذات متى تعرض الوجود للخطر، تراث يستوحي أفضل ما لدينا ويبني عليه أفضل ما لدى الغرب من علوم وتكنولوجيا وتطور، لن نستطيع المضي بطريقنا على قدم واحدة، فالتوأمة بين التراث والمعاصرة لا مناص عنها، ولن نستطيع أن نجد لنا مكاناً بين شعوب العالم طالما بقينا على هذه الفصامية، هذه الحالة من الازدواجية التي لن تنتج شعباً حراً، بل ستنتج شعباً تابعاً مدمراً ثقافياً، فإن تحررنا شكلاً فلن نتحرر مضموناً.
تذكرت خلال تجوالنا الطويل صباح هذا اليوم على سفوح جبال الفارعة وطوباس قراراً قديماً اتخذه إمبراطور اليابان قبل قرون، والذي فرض بموجبه عزلة ذاتية عن العالم لأكثر من قرن من الزمن، أرادت اليابان بناء هويتها وصقل تجربتها بمعزل عن تدخل الآخرين، وذلك بعد أن عانت من ضعف شخصيتها القومية وهويتها الوطنية، اعتمدت اليابان على ذاتها قرن من الزمن، قامت خلالها بإعادة صياغة هويتها الوطنية وتراثها، ثم قامت بعد ذلك بفتح أبواب اليابان لجميع شعوب العالم وبضائعهم وثقافاتهم، لكن المواطن الياباني بقي منيعاً محصناً، متمسكاً بهويته وتراثه، لم يعد الشعب الياباني فريسة سهلة لمغريات الغرب، بل استوعب منتجات الثقافة الغربية دون التنازل عن ثقافته المتمثلة بنمط غذائه وحياته ونظام تعليمه وإنتاجه الصناعي، سمحت اليابان للغرب بعد هزيمتها بالحرب العالمية الثانية بغزو أراضيها اقتصاديا وسياسياً، لكنها تمسكت بحقها بالاحتفاظ بنظام التعليم المعتمد على الهوية والثقافة المحلية، ومن هنا، انتصرت اليابان وبقيت أمة عظيمة.
وصلت بنا مسيرة الانحدار الثقافي أن أصبحنا عاجزين عن تسمية أنفسنا ومؤسساتنا وشركاتنا ومرافقنا بالأسماء المستوحاة من تراثنا وتاريخنا، نتجول بشوارع المدن ونقرأ مسميات غريبة لا تمت بصلة لهويتنا، بل ونعاني بفهم هذه المسميات واختصاراتها ومضامينها، وإذا سألنا عن المضمون الخاص بهذه الأسماء الإفرنجية، ظهرنا ساذجين متخلفين غير ملتحقين بركب الحضارة العالمية، نسير بشوارع رام الله أو نابلس أو غيرهما من المدن الفلسطينية، فنقرأ من أسماء المطاعم والشركات ما هب ودب، لا يحدث ذلك لشئ إلا لإشباع الرغبة بإكمال النقص الكامن بداخلنا، والذي يشعرنا بتخلفنا إذا لم ننسلخ عن ثقافتنا.
من ملامح فصاميتنا، أننا لا نستطيع منع خصرنا عن الاهتزاز فور سماعنا ألحان أغنية (علّي الكوفية)، ونستميت بالرقص على تلك الأغنية دون أن نقبل أن نلبس الكوفية بشكلها التراثي، أي وضعها على الرأس مع العقال، بل نكتفِ بوضعها بصيغتها الاستعراضية على الأكتاف لغايات التصوير والعلاقات العامة، وإذا لبسها أحدنا بالحطة والعقال، تعرض للتهكم والاستهزاء.
تم استعمارنا ثلاثين عاماً من قبل الانجليز، أي منذ عام 1917 وحتى 1948، قام الانجليز خلالها بتشويه هويتنا واستبدالها بهوية مشتتة منفصمة متناقضة وطبقية، بل وعنصرية أيضاً، فتم التعالي على اللباس القروي واستبداله باللباس الإفرنجي، رمز الأفندية والثقافة والتعليم.
نحن مستعمَرون من الداخل، نعاني مما أسمته المناضلة الأمريكية مارسي نيومان بالاستعمار المستبطن، نحن نخجل بطريقة أو بأخرى من ذواتنا ومن كل ما ننتجه، نحن نخجل من شراء المنتجات الوطنية، ونندفع نحو كل ما يتم إنتاجه غرباً، نؤمن لاشعورياً بأن المنتج الآخر أفضل من منتجنا، وما ذلك إلا لضعف بشخصيتنا، بل وانعدام لثقتنا بها.
نعاني من هذه المعضلة الثقافية، نحن مستهدفون بثقافتنا، ونساهم، بوعي منا أو دون وعي، بمفاقمة هذا الترهل الثقافي، نحن نصعد بسرعة إلى الهاوية، ولن تقوم لنا قائمة إلا إذا قمنا بإعادة صياغة هويتنا، لا قيمة لتحرير فلسطين، أو حتى استعادة الأندلس، طالما لم نبنٍ الإنسان، فالإنسان أغلى ما نملك، فما قيمة فلسطين محررة دون أن نكون قد تحررنا من الداخل، دون أن نكون قد تخلصنا من كل ما علق بثقافتنا من ازدواجية مقيتة، دون أن نحدد هويتنا الفلسطينية، نحن بحاجة لإعادة صياغة ثقافتنا المعاصرة، واستبدالها بثقافة قويمة معتمدة على موروثنا الثقافي والتاريخي والوطني، أي ما يمكن تسميته بلغة إخوتنا العاملين بتكنولوجيا المعلومات، الفرمتة، أي إعادة صياغة الأفكار والمفاهيم وإحلال مفاهيم نظيفة ونقية بدلا منها، وإذا استمر بنا الحال على ما نحن عليه، دون تنظيف أدمغتنا من الشوائب، فسنبقى كمن ينظف جهاز الكمبيوتر من بعض الملفات دون أن يقوم بتطهيرها كلياً من الفيروسات.
نحن بحاجة لإعادة تقييم ثقتنا بأنفسنا، لا يجوز لنا أن نبق خجولين من ملابسنا التراثية، فلنحاول العودة إليها ولو ببطء، لماذا لا يتم ذلك من خلال حفلات الأعراس ولبس العروسين للملابس التراثية، هناك الكثير من الأفكار التي تستحق الدراسة، فلنحاول التفكير بها معاً.
قال لي أحد كبار السن من مهجري البلاد حين سجلت معه مقابلة قبل بضعة عشر عاماً، لقد فوجئ الفلسطينيون الذين بقوا بأراضي ال 1948 بعد النكبة، بعدم وجود محلات يمكنهم شراء الملابس التراثية الفلسطينية منها، وذلك بسبب إغلاق الحدود، فكان هذا الرجل (شهير دعدوش) يذهب بموعد محدد إلى جبل حدودي ليلتقٍ بتاجر آخر من أم الفحم، يقوم بتسليمه شوال مهرب مليء بالشراويل والحطط والعقل والقمبازات والتي يتم بيعها داخل الأراضي المحتلة، لم يستطع الكثيرون من أهلنا ممن بقوا بالجليل والساحل والمثلث والنقب لبسَ اللباسِ الأوروبي، وفضلوا اللباس التراثي، لقد كان لصدامهم الثقافي بثقافة مناقضة دور المحفز على الاعتداد بالذات والهوية الفلسطينية في وقت أصبح وجودهم فيه مهدداً.
قبل أكثر من عشرين عاماً، تم عرض مسلسل مصري اسمه (أرابيسك) قام بطل المسلسل، الممثل صلاح السعدني، بالحلقة الأخيرة منه، بهدم الفيلا التي رغب صاحبها ببناء ديكورها وفقاً لعدة أنماط معمارية، أحدها فاطمي، والآخر فرعوني، وجزء ثالث روماني، وغيره قبطي أو بيزنطي، وأجاب النجار (صلاح السعدني) عندما ُسئل عن سبب هدم الفيلا: إحنا لازم نختار هويتنا، إحنا مين؟ وهويتنا إيه؟ ولوين رايحين؟ مينفعش نكون بتوع كلو، يا إما إسلامي يا روماني يا فرعوني، عشان كده، لازم نهد اللغوصة دي، لازم نحدد هويتنا، وبعد كده نقدر نخرج نحكي مع العالم، ونقول إحنا عايزين إيه، وبغير كده، محدش حيحترمنا.