أسفل جبل المقطم شرق العاصمة المصرية، وتحديداً بمنطقة منشية ناصر، تتواجد مجموعة من البنايات الحديثة في غالبيتها، وإن كانت تتسم بالعشوائية. تسمى "عزبة الزبالين"، ورغم أنها تبدو مماثلة لعديد من المناطق العشوائية في مصر، لكن لا يعلم الكثيرون أن هناك "كنزاً" قابعاً داخل هذه البنايات.
الحكومة المصرية كانت تعلم بوجوده، أو فلنقل أنها انتبهت الآن لوجوده، وبدأت تتخذ الإجراءات اللازمة للحصول على جزء من هذا الكنز، وربما الهيمنة عليه بالكامل.
العديد من سكان القاهرة سمعوا عن "عزبة الزبالين"، لكنهم قطعاً لم يروها. هم فقط يكتفون بتخيُّل مشاهد لمكان واسع تحتله أكوام القمامة وتفوح منه رائحة بقايا الطعام، وبالطبع هم يسألون أنفسهم: كيف لإنسان أن يعيش محاصراً بالقمامة؟ ولعلهم أيضاً يجيبون أنفسهم في تأثر، قائلين إن "أكل العيش مُر".
لعقود طويلة، كان المصريون ينظرون لمهنة جمع القمامة بنوع من الدونيَّة، ينظرون للعاملين بها بقدر من الشفقة ربما يدفعهم للتصدُّق عليهم. لكن في الوقت ذاته، كان "الزبَّالون" أو جامعو القمامة يخفون تحت ملابسهم الرثَّة ومظهرهم المثير للشفقة، مهنة تكاد تفوق في مكاسبها تجارة الذهب.
الحقيقة أن الأمر ليس بهذه المأساوية، بل إن قطاعاً كبيراً من المصريين لو علم ما تدره هذه المهنة من أرباح، لنازعوا الزبَّالين مهنتهم، وربما عزبتهم أيضاً. لكن ما حدث هو أن الحكومة المصرية هي التي أدركت هذه الحقيقة وبادرت بدس أنفها في سوق القمامة.
السلطات المصرية بدأت تلتفت أنظارها بقوة في الأشهر الماضية إلى هذه المهنة ذات الأرباح الخيالية، هي تريد أن يكون لها نصيب في هذه الأموال، أو ربما تنوي الهيمنة على هذا السوق بالكامل لصالحها، وهو ما تشير إليه تحركات حكومية مختلفة.
وقال المهندس مايكل حنا، مدير التشغيل بإدارة المخلفات لتدوير القمامة، في تصريحات صحفية سابقة أن عمليات إعادة تدوير القمامة إذا تمت بشكل صحيح فستوفر نحو 180 مليار جنيه مصرى (10 مليار دولار تقريباً) سنويًا، وذلك حسب الدراسات المعدة فى هذا الأمر.
"عربي بوست" كان حاضراً في "عزبة الزبالين"، في محاولة لاستكشاف حقيقة ما يثار من بدء تدخل الحكومة المصرية في عمليات جمع وإعادة تدوير القمامة، والضغط على المهيمنين على هذا السوق بوسائل مختلفة.
ولمن لا يعرف، فإن عزبة الزبَّالين هي منطقة تضم كبار تجار القمامة في مصر، وجلُّهم من الأقباط ويمكن اعتبارهم أسرة واحدة حقيقة وليس مجازاً، ولهم كبير يعرفه القاصي والداني وهو نقيب الزبَّالين، شحاتة المقدِّس.
بالنسبة لتخزين القمامة، فيتم داخل البيوت نفسها، بحيث يترك صاحب البيت الدور الأول (الحوش) مفتوحاً لاستقبال كل الكميات، التي يتم فرزها أولاً بأول، وتخزينها في الأدوار العلوية على حسب أنواعها (بلاستيك، زجاج، صاج، ورق.. وهكذا).
بالتالي، فإن المتجوِّل في هذا المكان لن يجد كثيراً من الأدلة على مهنة ساكنيه، ربما فقط الشوارع الضيقة التي لا تخلو من أكوام النبَّاشين المنهمكون في الفرز، وغالبيتهم من النساء. أكثر ما سيجده الزائر هو التوجُّس، والعيون التي تتبعه أينما تحرك، وغالباً سيتم توقيفه وسؤاله عن هويته وسبب دخوله للمنطقة، إن لم يكن معه من أهل المكان من يكفيه هذه الأسئلة.
وعموماً فإن المنطقة لا تقل خطورة عن منطقة التُرب (المقابر) المتاخمة لها، وهي ليست مباحة لأي غريب، وفيها تتناقض أشكال المعيشة بشكل صارخ بين التجار والعمال.
كما قلنا في بداية التقرير؛ فإن أحداً لم يكن يلتفت إلى هذه المهنة أو إلى أصحابها بكثير من الاهتمام، وإن أشارت بعض الأعمال السينمائية إلى "خطورة" الرؤوس الكبيرة في هذه المهنة، وعلاقاتهم الممتدة من الدولة إلى اللصوص وتجار الممنوعات باختلاف أنواعها، إلى حد تشبيهها بالـ"مافيا"، هو أمر لا يحمل مبالغة.
عملياً، يمكننا القول إن الحكومة المصرية اقتحمت هذا المجال، بدءاً من مارس/آذار 2017، عندما بدأت محافظة القاهرة تنفيذ مشروع "بيع زبالتك"، الذي قالت إنه يهدف لتقليل معدلات ونسب القمامة بالشوارع، وتوفير فرص عمل للشباب بالمناطق الشعبية.
وبدأت الوحدات المحلية إنشاء أكشاك في أماكن محددة بالأحياء، لشراء القمامة من المواطنين بالكيلوغرام.
البداية كانت في منطقة عزبة المسلمين، وميدان ابن سندر، بحي مصر الجديدة، ثم امتدت الفكرة لاحقاً لتشمل العديد من المناطق بل والمحافظات أيضاً.
المهندس حافظ السعيد، رئيس هيئة نظافة وتحميل بمحافظة القاهرة، قال في تصريحات لصحيفة "اليوم السابع" المحلية آنذاك، إن التجربة ستقضى على ظاهرة "الفرِّيزة" (عمال مقالب القمامة لفرزها وفصلها وبيعها)، فضلاً عن تقليل حجم المخلفات، والقمامة بالشوارع.
لما بدت الحكومة جادة في الأمر، دخل نقيب عمال القمامة في مصر، شحاتة المقدس، على الخط، وشن هجمة شرسة على الحكومة، مؤكداً أنه تقدَّم بمقترح لوزير البيئة لإصلاح منظومة النظافة "السيئة" في مصر، طبقاً لما ذكره مصدر مقرب لـ"عربي بوست".
وأكد المقدِّس أن لديه 3 آلاف سيارة ومليون عامل يمكنهم "تنظيف مصر"، وقال لعدد من الصحف المحلية إن مقترحه يقوم على تشغيل 3 ملايين كنَّاس، وإنشاء شرطة خاصة لمتابعة سير العمل.
لكن يبدو أن الحكومة كانت لديها خططها وأهدافها الخاصة التي لم يتمكن صوت "المقدِّس" العالي، ولا الاحتجاجات التي نظمَّها الزبالون لاحقاً، من وقفها، وإن كانت هذه الخطط تقوم على "الضرب تحت الحزام"، كما يقول عدد من تجار الزبَّالة الكبار لـ"عربي بوست".
الأمر ليس مجرَّد مجموعة من العمَّال يجمعون القمامة من الشوارع أو من المقالب الكبيرة ثم يبيعونها، كما يقول أحد التجار؛ إنها تجارة كبيرة وتدخل في صلب بعض الصناعات الهامة والاستراتيجية.
بداية، يقول التاجر، إنه يجب فهم أن هناك خلافاً بين القمامة ومخلفات المصانع، فلكل منهما طريقه وطريقته، وإن اجتمعا في نقطة واحدة نهاية الأمر.
ففي عزبة الزبالين أكثر من 500 ورشة لتدوير المخلفات المعدنية، وهي تنتج قرابة 5 آلاف طن من المعادن يومياً، في مقدمتها الألمونيوم المستخرج من علب المياه الغازية (الكانز)، والتي تخرج في شكل سبائك.
لكن، أهم ما في تجارة القمامة هو "الورق"، كما يقول التاجر، مضيفاً أن مصر تستورد 70% تقريباً من احتياجاتها لصناعة الورق والكرتون، وبالتالي فإن ما يتم جمعة عبر الزبّالين يساهم بالـ 30% المتبقية، بعد إعادة تصنيعه.
وأوضح أنه يبدو أن الحكومة تسعى لتصنيع غالبية ما تحتاجه مصر محليّاً، ففي منتصف العام 2017، استورد الجيش كميات كبيرة جداً من ورق "الدشت"، الذي يستخدم في صناعة المطبوعات، "فجأة تم إغلاق باب الاستيراد، وأصبح الجيش هو الموَّرد الوحيد للدشت، وارتفع سعر الطن من 3 آلاف جنيه تقريباً (150 دولاراً) إلى 7 آلاف جنيه، وربما أكثر"، على حد قوله.
بعد هذه العملية، بدأت الحكومة متمثلة في أجهزة الأمن والمحليات تصعيد خطواتها، ليس ضد تجار الزبالة وإنما ضد الجمِّيعة الذين يعملون في الشوارع والمقالب. "على ما يبدو هي محاولة لتصنيع كميات كبيرة من ورق الدشت قبل نفاذ المخزون الذي استورده الجيش"، كما يقول التاجر.
وتابع "بدأت الشرطة شن حملات اعتقال وتحرير محاضر لمن يجمعون الزبالة من الشوارع أو من المقالب، وهي محاضر تتبعها كفالات وقضايا تنتهي بالسجن أو بغرامات تبدأ من 2000 جنيه وتصل إلى 50 ألفاً، أو بكليهما، وبالتالي تراجع عدد العمال في هذا المجال بشكل كبير، خصوصاً وأن أغلبهم من النساء والأطفال".
هنا تجب الإشارة إلى أن الشرطة المصرية تتهم كثيرين من هؤلاء بالتستُّر وراء هذه المهنة لسرقة كابلات الهواتف الأرضية (مصنوعة من النحاس) وكبائن الكهرباء وأغطية بالوعات الصرف الصحي، بل وخطف الأطفال وسرقات أخرى متعددة، وكلها أمور تدعمها حوادث كثيرة، ويؤكدها مواطنون كُثر.
أحد أصحاب مراكز التجميل أكد لـ"عربي بوست"، أنه شخصياً شاهد على عدد من هذه السرقات التي ثبت لاحقاً تورط جامعي الزبالة فيها.
لكن تاجراً آخر يؤكد لـ"عربي بوست"، أن مكافحة السرقة "ليست مربط الفرس"، بدليل أن آلاف السيارات تسرق وآلاف الأطفال يخطفون، ومئات الأشخاص يقتلون في الشوارع، دون أن يبحث أحد عمَّن يقف وراء كل هذا، كما أنه لم يثبت تورُّط الزبالين في عدد كبيرة من السرقات.
ويتابع التاجر (وهو من ساكني عزبة الزبَّالين): "الأمر أكبر من ذلك. هناك من يسعى للسيطرة على هذه السوق، لكنه يتستر وراء الشرطة والمحليات، وبالتالي لا أحد يستطيع معرفته صراحة، وإن كان معروفاً ضمناً".
ما يجعل هذا التاجر، وغيره، يشعرون بوجود جهة كبيرة في الدولة تسعى للسطو على هذه المهنة، وإن لم تظهر؛ هو عدد من الأمور التي ذكرها التجار، يمكنها اختصارها في النقاط التالية:
فالمحليات والشرطة تتحركان بقوة ضد جامعي الزبالة وهذا أمر غريب على الجهتين اللتين تبدوان وكأنهما تنفذان أمراً ممن هو أعلى منهما.
وسيارات نقل الزبالة التي كانت تتحرك بحرية كاملة في سنوات مضت باتت حالياً هدفاً للأكمنة والدوريات، وهناك كمين الإسماعيلية الذي يجبر أي شخص على تفريغ حمولته إلى جانب الكمين بالقوة، ولا أحد يعرف أين تذهب هذه الكميات بعد مصادرتها.
هناك أيضاً مقالب النفايات التي تستخدمها المصانع للتخلص في نفاياتها في مدن مثل العاشر من رمضان والصالحية وغيرهما، أصبح مستأجروها يتعرضون للبلطجة حتى يجبروا على تركها رغم أنهم يدفعون مقابلاً سنوياً لوزارة الحكم المحلي.
مقالب النفايات هذه، كان يستفيد منها المستأجر عبر فرز النفايات وبيعها، حالياً لا أحد الجهة التي تقوم بعملية الفرز والبيع.
سيارات المصانع نفسها التي كانت تفرغ النفايات في المقالب باتت تتعرض للبلطجة والتهديد كي لا تدخل المقالب، ويتم أحياناً إجبارها على إفراغ حمولتها في الشارع ولا أحد يعرف من يحرك هؤلاء البلطجية.
وسبق أن صرَّح نقيب الزبالين بأن المقترح الذي قدمه لوزير البيئة يتلخص في أن تكون هناك جهة مختصة مسؤولة عن الملف، تقوم بإعادة هيكلة النظافة، وإعادة الزبالين القدامى، وعمل شرطة متخصصة للقبض على المخالفين، لكن الوزير رد بأن القانون والدستور لا يعطيانه حق الموافقة أو الرفض، وأنه لا بد من عرض الأمر على مجلس النواب ووزارة التنمية المحلية للبت فيه.
عربي بوست