"عروسٌ على البحر الأحمر: عالمٌ مستقل رائع ومركز الغوص والاستجمام الصحراوي في السودان"، هكذا كانت كلمات وصف قرية عروس السياحية في الكُتيب اللامع الترويجي لها.
ويتضمَّن الكتيب الإعلاني صوراً لشاليهات مُطلة على شاطئ مشمس، وزوجين مبتسمين وهما يرتديان معدات الغوص، وأنواعاً مختلفة من الأسماك الغريبة، ويتباهي بعرض "بعض أفضل المياه وأنقاها في العالم". ويضيف الكتيب أنَّه مع سدول ستائر الليل، "يمكن رؤية مناظر خلَّابة للسماء وهي مُضاءةٌ بملايين النجوم".
غير أن هذا المنتجع كان زائفاً تماماً دون عِلم زواره أو السلطات السودانية؛ إذ كان جبهةً أُقيمت وأٌديرت لأكثر من 4 سنوات في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، على أيدي عملاء تابعين لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد).
واستخدمها هؤلاء العملاء، كما جاء في تقرير نشرته BBC، غطاءً لترحيل آلاف اليهود الإثيوبيين الذين كانوا عالقين بالقرب من السواحل السودانية في مخيمات اللاجئين وإجلائهم إلى إسرائيل؛ إذ كانت السودان بلداً عربياً معادياً لإسرائيل، وكان لا بد من فعل ذلك دون علم أحد، سواءٌ في السودان أو إسرائيل نفسها.
جاد شيمرون أحد العملاء الذين عملوا في القرية، يصف العملية بأنها كانت سراً من أسرار الدولة ولم يتحدث عنها لأحد، حتى أُسرته لم تكن تعلم شيئاً عنه.
كان اليهود الإثيوبيون ينتمون إلى مجتمعٍ يُسمَّى "بيت إسرائيل" ذي أصول يكتنفها الغموض.
ويعتقد البعض أنَّهم انحدروا من إحدى القبائل التي تُسمَّى القبائل العشر المفقودة من الممالك الإسرائيلية القديمة، أو الإسرائيليين الذين رافقوا ابن ملكةِ سبأ والملك سليمان إلى إثيوبيا في عام 950 قبل الميلاد تقريباً، في حين يعتقد آخرون أنَّهم فروا إلى هناك بعد تدمير المعبد اليهودي الأول في عام 586 قبل الميلاد.
وكانوا يلتزمون بتعاليم التوراة ويمارسون طقوساً يهودية توراتية ويُصلّون في المعابد اليهودية. ولكن، لأنَّهم كانوا معزولين عن بقية يهود الأرض آلاف السنين، اعتقدوا أنَّهم كانوا آخر يهود متبقين في العالم.
وفي عام 1977، انضم هو فيريد عكلوم، أحد أعضاء هذا المجتمع، إلى موجةٍ من اللاجئين الإثيوبيين غير اليهود الذين عبروا حدود إثيوبيا إلى السودان؛ هرباً من الحرب الأهلية وأزمة الغذاء المتفاقمة آنذاك.
وبعث عكلوم برسائل إلى وكالات إغاثية طلباً المساعدة، فوصلت إحداها إلى الموساد. وكان مناحم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك -الذي كان هو نفسه لاجئاً من أوروبا حين كانت مُحتلة على أيدي النازيين- يرى أنَّ إسرائيل ملاذٌ آمن لجميع اليهود المُعرَّضين للخطر -أي إنَّ مجتمع بيت إسرائيل لم يكن استثناءً- لذا أمرَ الموساد بالتصرُّف.
ثم عثر أحد عملاء الموساد على عكلوم، الذي أوصل رسائل من الموساد إلى مجتمعه، مفادها أنَّ فرصة الوصول إلى القدس من السودان أفضل من فرصة الوصول إليها من إثيوبيا التي كانت تفرض قيوداً مُشدَّدة على الهجرة.
فقَطَع نحو 14 ألف شخصٍ من مجتمع بيت إسرائيل 800 كيلومتر سيراً على الأقدام في رحلةٍ محفوفةٍ بالمخاطر مع أكثر من مليون إثيوبي آخر؛ بحثاً عن ملاذ عبر الحدود السودانية.
ولقي نحو 1500 من اللاجئين اليهود مصرعهم في الطريق، سواء بالهلاك في المخيمات القذرة الموجودة حول مدينتي القضارف وكسلا السودانيتين أو تعرُّضهم للاختطاف.
وعلى نحوٍ شبه فوري، بدأت بعض أنشطة الإنقاذ على نطاقٍ صغير بإخراج يهود إثيوبيين من السودان إلى أوروبا بأوراق رسمية مزوَّرة ثم ذهابهم إلى إسرائيل، لكنَّ الساحل السوداني المُطِل على البحر الأحمر أتاح إمكانية تسريع عمليات الإجلاء بدرجةٍ مختلفة تماماً.
عميلٌ رفيع المستوى شارك في المهمة يذكر أنهم تواصلوا مع البحرية (الإسرائيلية)؛ لمساعدتهم في تنفيذ العملية فوافقوا؛ لذا ذهب اثنان من زملائه في الموساد إلى السودان بحثاً عن شواطئ محتملة لرسو فرق الإنقاذ، فلم يعثروا إلَّا على تلك القرية المهجورة وسط مكانٍ قفر.
عملاء الموساد اعتبروا القرية هبةً من السماء؛ فإذا استطاعوا الحصول على المكان وتطويره، فإنه يمكنهم القول إنهم يديرون قريةً للغوص، ما سيمنحهم سبباً للوجود في السودان، فضلاً عن التجوُّل بالقرب من الشاطئ.
وما حدث بعد ذلك أصبح قصة فيلمٍ هوليودي يُعرض قريباً تحت اسم Red Sea Diving Resort أو "منتجع الغوص في البحر الأحمر". صُوِّر الفيلم في ناميبيا وجنوب إفريقيا، ويحكي قصة العملية والقرية. ومع أنَّه يستند إلى أحداثٍ حقيقية، فإنَّ بعض أحداثه خيالية.
أُنجزت أعمال بناء المنتجع عام 1972 على يد رجال أعمال إيطاليين، وكان مكوَّناً من 15 غرفةً ذات أسقف حمراء ومطبخاً ومطعماً مفتوحاً على الشاطئ وإحدى البحيرات والبحر.
بيد أنَّ رجال الأعمال الإيطاليين وجدوا افتتاح المشروع مستحيلاً، في ظل عدم توافر كهرباء أو إمدادات مائية أو حتى طريق، ولم يُفتتح المنتجع قَط آنذاك.
وباستخدام جوازات سفر مزورة، ذهبت مجموعةٌ من عملاء الموساد إلى السودان، متظاهرين بأنَّهم موظفون في شركة تشغيلٍ سويسرية، وأقنعوا السلطات السودانية بمشروعهم المقترح، واستأجروا القرية 3 سنوات مقابل 320 ألف دولار.
أمضى العملاء السنة الأولى في تجديد المنتجع وأبرموا صفقةً مع مورِّدين محليين للحصول على المياه العذبة والوقود.
وجُهِّز المنتجع بمعداتٍ إسرائيلية الصنع -من بينها وحدات تكييف الهواء ومحركات للزوارق السريعة وأفضل معدات الرياضات المائية- هُرِّبت كلها إلى داخل البلاد.
ووظَّفوا كذلك نحو 15 موظَّفاً محلياً، من بينهم موظفو خدمة الغرف ونُدُل وسائق وطاهٍ "قادم بطريقةٍ غير شرعية" من أحد الفنادق، كانوا يدفعون لهم ضعف الراتب التي يتقاضونها، ولم يكن أيٌّ من الموظفين على درايةٍ بالغرض الحقيقي للمنتجع، أو أنَّ مديريهم كانوا جواسيس تابعين للموساد.
وأُسنِدَت مسؤولية إدارة المنتجع اليومية إلى عميلاتٍ من الموساد؛ إذ كان يُعتقَد أنَّ ذلك سيقلل أي شكوك.
وكان دخول مخزن معدات الغوص محظوراً على الموظفين العاديين، حيث كان يحتوي على أجهزة لا سلكي مخفية، كان العملاء يستخدمونها في التواصل المستمر مع مقر الموساد بتل أبيب.
وبعدها، بدأ عملاء الموساء تنفيذ مهمته السرية، فقد قطعت قافلةُ شاحنات تحمل العشرات من اللاجئين المتحيِّرين 800 كيلومتر على مرِّ يومين، متجنبةً اكتشاف ماهيتها عند العديد من نقاط التفتيش على طول الطريق، بمزيجٍ من المكر والرشوة واقتحام نقاط التفتيش بالقوة في بعض الأحيان.
ويقول جاد في كتابه Mossad Exodus أو "هجرة الموساد": "حين سمحنا لهم بالجلوس في مقصورة السائق ولمْس عجلة القيادة، كانوا يشعرون بسعادةٍ غامرة. كان من المدهش أن نرى مدى سعادتهم بمشاركة قطعةٍ من علكة بين 20 طفلاً. كانوا ينظرون إلينا كما لو كنا مخلوقاتٍ من الفضاء الخارجي".
وحين كانوا يصلون إلى الشاطئ الواقع شمال القرية السياحية، كانت قواتٌ خاصة تابعة للبحرية الإسرائيلية تأتي إلى الشاطئ على متن زوارق زودياك، فتجمع اللاجئين وتنقلهم في رحلةٍ تستغرق ساعةً أخرى ونصف الساعة إلى سفينة "بات غاليم" التي كانت تقف في انتظارهم، ثم تنقلهم إلى إسرائيل.
وكانت حقيقة أمرهم على وشك أن تُكشَف في مارس/آذار من عام 1982، حين رصد جنودٌ سودانيون المجموعة في ثالث عمليةٍ من هذا القبيل، بمنتصف عملية النقل على الشاطئ. وربما كان الجنود يشكّون في أنَّهم مُهرِّبون فأطلقوا طلقاتٍ تحذيرية، لكنَّ الزوارق تمكنت من الفرار بالإثيوبيين الذين كانوا على متنها.
وبعد ذلك، تقرَّر أنَّ عمليات الإجلاء البحرية معرَّضةٌ للاكتشاف بدرجةٍ كبيرة، فوُضِعَت خطةٌ جديدة. وكُلِّف العملاء العثور على مكانٍ مناسب في الصحراء لهبوط طائراتٍ من طراز "لوكهيد سي-130 هيركوليز" لنقل اللاجئين جواً بطريقةٍ سرية إلى خارج البلاد.
بدأت عمليات النقل الجوي، وتلقَّى جاد وفريقه رسالةً، مفادها أنَّ هناك مهبطاً بريطانياً مهجوراً منذ الحرب العالمية الثانية لا يبعد عن الساحل، وفي مايو/أيار من عام 1982، هبطت أول طائرةٍ من طراز "لوكهيد سي-130 هيركوليز" حاملةً كتيبة إسرائيلية هناك في جوف الليل.
وبعد ذلك بسنوات، قال أحد الإثيوبيين، البالغ عددهم 130 شخصاً، والذين نُقلوا في تلك الرحلة، لجاد: "ليس لديك أدنى فكرة عمَّا كان يعنيه لي أن أذهب إلى طائرةٍ بوسط الصحراء السودانية في ليلة مظلمة".
وأضاف: "لم أكن قد رأيت طائرةً قَط في حياتي من قبل. شعرت بشعور النبي يونس حين التقمه الحوت، وفجأة، أصبحت في صهيون (إسرائيل) بعد 3 ساعات".
وعلى الرغم من التعقيدات والعواقب الكارثية المحتملة لفشل هذه العمليات السرية، نُفِّذَت 17 رحلة جوية سرية بالتنسيق مع عملاء منتجع الغوص في البحر الأحمر، وبعضها كان على بُعد نحو 600 كيلومتر.
وبالقرب من نهاية عام 1984، أُعلنت المجاعة في السودان، وتقرر تصعيد عمليات الإجلاء، ووافق الرئيس السوداني السابق، المشير جعفر النميري، بتدخُّلٍ من الولايات المتحدة وتقاضي مبلغ كبير، على السماح للاجئين اليهود بالانتقال مباشرةً من الخرطوم إلى أوروبا. لكنَّه وافق بشرط السرية التامة؛ لتفادي تداعيات معرفة ذلك في بقية أنحاء العالم العربي.
ونُقِل 6380 يهودياً إثيوبيّاً إلى مدينة بروكسل البلجيكية، ثم إلى إسرائيل مباشرة، في سلسلةٍ من 28 رحلةٍ جوية سرية على متن طائرةٍ من طراز "بوينغ 707″ قدَّمها مالكٌ بلجيكي إسرائيلي لإحدى شركات الطيران من دون مقابل. وأُطلِق على عمليات الإنقاذ اسم "عملية موسى".
في 5 يناير/كانون الثاني من عام 1985، نشرت صحفٌ بجميع أنحاء العالم القصة، وأوقف السودان الرحلات على الفور، وأعلن عدم تورُّطه بأي شكل في هذه العمليات، ونفى ادِّعاءات تواطئه مع إسرائيل، قائلاً إنَّها "مؤامرةٌ صهيونية إثيوبية".
وفي أبريل/نيسان من العام نفسه، أطاح ضباطٌ في الجيش بالمشير النميري. وكان ذلك منعطفاً للأحداث يُعرِّض عملاء الموساد في القرية لكشف أمرهم؛ لذا أمر رئيس الموساد آنذاك بإخلاء المنتجع، فنفَّذ العملاء أوامره خلسةً في اليوم التالي مباشرة.
"كان هناك سائحون في القرية، استيقظوا ووجدوا أنفسهم وحدهم في الصحراء. وكان الموظفون المحليون ما زالوا هناك، وباستثناء ذلك، لم يبق أحدٌ على الإطلاق في القرية، لقد اختفى مدرِّب الغوص والمديرة وجميع أفراد فريق الموساد، ليتم إغلاق القرية السياحية".
ولإنقاذ 492 يهودياً إثيوبيّاً ظلوا عالقين بسبب التوقف المفاجئ لـ"عملية موسى"، أنشأ جورج بوش الأب، نائب الرئيس الأميركي آنذاك، جسراً جوياً بعد ذلك بشهرين، ونُقِلوا أخيراً على متن طائراتٍ أميركية من طراز "هيركوليز" إلى إسرائيل، وتبع ذلك المزيد من العمليات على مرِّ السنوات الخمس التالية، حيث تم نقل نحو 18 ألف شخصٍ من إثيوبيا إلى إسرائيل.
عربي بوست