بقلم: د. حسن أيوب- أستاذ العلوم السياسية والسياسات المقارنة. جامعة النجاح الوطنية
(3)
مثالية محمود عباس
بدأت علامات واقعية أوباما الجديدة تظهر مبكرا على جبهة المفاوضات الفلسطينية- الاسرائيلية. لم يكن الرئيس أوباما متحمسا، ولم يبد أي قدر من التفاؤل بنتائج الجهود الحثيثة والوقت الكبير الذي كرسه وزير خارجيته لاستئناف المفاوضات، ناهيك عن الخروج بنتائج من هذه المفاوضات. اكتفى أوباما بالدفاع عن جون كيري في وجه منتقدي كيري من داخل الحكومة الاسرائيلية، ومن منظمة إيباك أكثر المنظمات الداعمة لإسرائيل قوة في الولايات المتحدة الأمريكية. أمام الفشل الذي منيت به إدارة أوباما على هذا الصعيد، اكتفى أوباما باستضافة كل من بينيامين نتانياهو، والرئيس الفلسطيني محمود عباس في البيت الأبيض تباعا وكل على حدة في إشارة صريحة إلى عدم رغبة أوباما في إلقاء ثقله في عملية تفاوض معروف سلفا بأنها لن تثمر. ليس في هذه المرحلة على الأقل. ذروة التسليم الأمريكي باستحالة إحداث اختراق في هذه المفاوضات تمثلت في استقالة مارتن إنديك المبعوث الخاص لعملية المفاوضات، وامتناع الإدارة عن تحميل مسؤولية فشل المغاوضات للحكومة الاسرائيلية رغم كل التقارير التي تشير إلى هذه الحقيقة.
إن هذا الموقف لا يتسم بالغموض إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المساحة التي توليها الإدارة الأمريكية للموضوع الفلسطيني. بالعودة إلى خطاب حالة الاتحاد انف الذكر، فإن الخطاب لم يأت على ذكر المفاوضات، ولا على نية الإدارة التقدم بأية مبادرات جديدة للتوصل إلى تسوية مقبولة. اكتفي أوباما في ذلك الخطاب على التأكيد على التزام بلاده "الذي لا يتزعزع" بأمن وبقاء دولة إسرائيل. وفي خطابة الأخير في "ويست بوينت" لم يتطرق الرئيس الأمريكي لهذا الملف. هذه بالتأكيد ليست مصادفة، بل مقاربة مدروسة بعناية.
تدرك الإدارة الأمريكية بأن تراجعها المدروس عن لعب دور فعال في التسوية واستئناف المفاوضات سيترك فراغا دبلوماسيا وسياسيا خطيرا يخل أكثر بقواعد اللعبة التفاوضية لمصلحة إسرائيل، ويترك الطرف الفلسطيني أكثر ضياعا بشأن الاستراتيجية الفلسطينية المطلوبة لمواجهة الوضع الجديد. وإن كانت بعض الدول التي من المتوقع أن لا ترتاح للسياسة الخارجة الجديدة تمتلك الخيار للتحرك دفاعا عن مصالحها بما تملكه من موارد (العربة السعودية مثلا لم تخف امتعاضها من سياسات الولايات المتحدة في المنطقة وبخاصة في الشأنين السوري والإيراني، وتعمل الان على فتح علاقاتها مع إيران)، تدرك الإدارة الأمريكية بأن الرئيس الفلسطيني لا يمتلك مثل هذا القدرة. بالمقارنة بالدور المتوقع أن تلعبه إسرائيل في السياسة الجديدة للولايات المتحدة -كما أسلفنا- وبتحكمها بمتغيرات العملية التفاوضية على الأرض، فإن قدرة الطرف الفلسطيني على تغيير الأسس البنيوبة لعملية التفاوض والتسوية تبدو متضائلة. فما الذي يمكن قرائته في توجهات الرئيس الفلسطيني في الأيام القليلة الماضية؟
عقب خطاب الرئيس الأمريكي في "ويست بوينت"، بعث أوباما برقية للرئيس عباس أعاد فيها الأول تأكيده على "دعم الولايات المتحدة لقيام دولة فلسطين المستقلة إلى جانب دولة إسرائيل...والتزامها
بشكل معمق بمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة ومتواصلة، تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل، معربا عن أمله بتواصل العمل سويا للوصول إلى هذا الهدف". لم تأت البرقية بجديد يعين محمود عباس على تبني خيارات تمنحه فرصة أفضل للاستمرار في مفاوضات ذات معنى. من الواضح بأن الموضوع الفلسطيني يأتي في ترتيب متأخر في سلم أولويات السياسة الخارجية لأوباما. من الزاوية الواقعية لا يمتلك الفلسطينيون -أو لم يعودوا يمتلكون- الأدوات التي يمكن أن تضعهم في موقع المؤثر في الأحداث السياسية من حولهم، وبالتالي إجبار الإدارة الأمريكية على وضع الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي على رأس سلم أولوياتها.
إن الرد الفلسطيني على هذه السياسية حتى هذه اللحظة لا يزال غارقا بمثالية حالمة بأحسن الأحوال. بل إن كل المتغيرات التي تطرقنا لها هنا لا يبدو بأنها تجد صدى ذو مغزى في الخيارات المتبناة من قبل محمود عباس، والتي من شأنها أن تعيد إلى الطاولة أولوية القضية الفلسطينية على أجندة الولايات المتحدة وسواها من القوى المؤثرة إقليميا ودوليا، والأهم أن تسحب من يد اسرائيل الواقع المريح لاستمرار الاحتلال. إن مجمل الخطوات التي قام بها محمود عباس في الاونة الأخيرة تدلل على مقدار الضياع الاستراتيجي في انتهاج سياسات متماسكة وذات هدف معلن وواضح.
يصر الرئيس الفلسطيني على استراتيجية بلا بدائل وهي استراتيجية التفاوض، حتى لو كان هذا التفاوض مع أطراف تفتقد إلى التفويض في إسرائيل. إن اللقاء الذي عقده محمود عباس مع تسبي ليفني في لندن قبل نحو الاسبوعين هو خير مثال على ذلك. أتبع أبو مازن هذا اللقاء بدعوة صريحة لاستئناف التفاوض في الوقت الذي لم تبد الولايات المتحدة ولا إسرائيل أية رغبة حتى في التعليق على هذه الدعوة. بات من الواضح للرئيس الفلسطيني بأن عامل الزمن لا يعمل لصالح سياساته، وبأن تردده في اللجوء إلى البدائل الصدامية سياسيا ودبلوماسيا قد شجع نتانياهو على التشدد أكثر، وترك الإدارة الأمريكية أقل حماسة للتدخل. في هذا السياق تأتي مبادرة إنهاء الانقسام الفلسطيني غير بعيدة عن حسابات الرئيس الفلسطيني لامتلاك ورقة ضغط قد تعزز موقعه التفاوضي، إذ إن إنهاء الانقسام يتطلب ما هو أبعد من تشكيل حكومة توافقية. إنه -إلى جانب ذلك- يتطلب استراتيجية وطنية جامعة تشكل بديلا للوضع القائم.
يسارع الرئيس الفلسطيني للقيام بأية خطوة مهما كانت هامشية وغير مؤثرة من شأنها -من وجهة نظره- أن تبين مدى التزام القيادة الفلسطينية بنهج التفاوض والذي لن تؤثر فيه عملية انهاء الانقسام (على ضحالتها). من ذلك اللقاء الذي سيجمعه برئيس إسرائيل شمعون بيرس للصلاة من أجل السلام في الفاتيكان. من يدري فربما يستجاب الدعاء ونذهب لجولة جديدة من التفاوض! وتبرز في توجهات الرئيس الفلسطيني سلسلة اللقاءات التي يعقدها مع شرائح وفئات مختلفة من المجتمع الاسرائيلي في رام الله بترتيب من عضو اللجنة المركزية لحركة فتح محمد المدني. هذا الأخير أكد على أن هذه اللقاءات تؤكد بأن منظمة التحرير هي الشريك الفعلي في عملية السلام، وبأن هذه اللقاءات من شأنها التأثير على المجتمع المدني في إسرائيل. من المعروف بأن المجتمع الاسرائيلي يتجه أكثر فأكثر نحو اليمين والفاشية، ومن المستبعد أن تحدث مثل هذه اللقاءات تغيرا جوهريا في هذا الشأن فعوامل النزوع اليميني في إسرائيل أكثر تعقيدا وعمقا من أن يغيرها خطاب حُسن نوايا من الرئيس الفلسطيني. من جهته قال محمود عباس في اللقاء الأخير الذي عقده مع نشطاء إسرائيليين بأن السلطة الفلسطينية لن توقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، بل وتراه أمرا مقدسا! يبدو بأن القيادة الفلسطينية لا تزال تراوح في مربع الإثبات بأنها تريد صنع السلام مع إسرائيل بعد عشرين عاما من المفاوضات الفاشلة، بقدر ما يبدو بأن هذه القيادة لا تمتلك مشروعا جذريا يشكل البديل لهذا الفشل، أو بالحد الأدنى الإقرار بوجوده، بل تصر على أبرز عناوينه وأكثرها استفزازا لمشاعر الفلسطينيين وأقلها خدمة لحقوقهم الوطنية المشروعة، وهو التنسيق الأمني.
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أوجه الضعف والفشل الذي منيت به السياسة الخارجية الأمريكية، واستراتيجيتها الجديدة التي ناقشناها أعلاه، فإن الولايات المتحدة هي اليوم أحوج ما يكون لحلفاءها المقربين، ومن بينهم -إن لم يكن في مقدمتهم- إسرائيل. من البديهي والحال هذه أن لا نتوقع من الإدارة الأمريكية أن تلعب دور الوسيط النزيه الذي لم تلعبه حتى عندما كانت في أوج قوتها الدولية. الرهان بعكس ذلك هو مثالية حالمة على أفضل تقدير. إن توصيف السياسة الفلسطينية كتوجه مثالي وفق هذه المعطيات ربما يعد تسطيحا لمفهوم المثالية، لكن على افتراض المثالية في فكر وسياسات الرئيس محمود عباس فإنها مثالية باتت أقرب إلى التفكير الرغائبي، لكن كثير من الواقعيين قد بدأوا حياتهم السياسية من مواقع المثالية قبل أن تحملهم الحقائق الصلبة إلى خشونة الواقعية السياسية.