على بُعد 15 دقيقة من مدينة هرر القديمة المحاطة بالأسوار، تضطرم هذه النار الصغيرة.
يشعلها رجلٌ النار عند حافة الحقل ليضيء الليلة الباردة. وتمتد القمامة -على ما يبدو- إلى الجبال التي تظهر في الأفق، ويُقدم لهيب النار ضوءاً كافياً لرؤية قِطع العظام المنثورة في الوحل، وأجسام غامضة. وعندما يحل المساء، يُطلق الرجل مجموعة من الصافرات الطويلة. وينادي قائلاً: "جالا؟ ديبي!"، وفجأةً تحضر الضباع.
ينتمي عباس، البالغ من العمر 22 عاماً، إلى الجيل الثالث من مُطعمي الضباع. تعلَّم هذه المهنة وهو في السابعة من أبيه.
وبعدما مرض أبوه، تسلَّم زمام هذه الوظيفة الرمزية الغريبة. فالضباع حيواناتٌ مفترسة يمكن أن تهاجم البشر إذا تعرضت للتهديد، إلا أنَّها في هرر صارت شبه مستأنسة، وموقَّرة بطريقةٍ ما.
بدأ تقليد إطعام البشر هذا الحيوان الذي يبحث عن فضلات الطعام، في الستينيات، وربما كان ذلك عن طريق مُزارع يحاول إبعادهم عن ماشيته. وفي يومنا الحالي، أصبح هذا الأمر مصدراً غير اعتيادي لجذب السياح إلى هذه المدينة النائية بإثيوبيا.
ينتظر كلٌ من البشر والحيوانات التي تقترب من عباس وصول اللحم، الذي يأتي فوق عربة يدوية قادمة من جزارٍ قريب. يجثو عباس على ركبتيه بجوار سلةٍ من الخيزران، ويضع قطعة لحم سمينة وطويلة على طرف عصا. ثم ينادي بالأسماء -إذ يزعم أنَّه يعرف 80 منها- ويلوِّح باللحم في الظلام. تتوقف حافلة وينزل منها مجموعةٌ من السياح اليابانيين ويقتربون منه. يرشد عباس سائحةً منهم بأن تركع وتضع يديها وركبتيها على الأرض، ثم يرفع قطعة لحم فوق رأسها وينادي قائلاً: "إيبسا، إيبسيتو". يقترب ضبع مرقَّط، ويصعد فوق ظهر السائحة، ثم يلتهم اللحم باضطراب.
لا تبدو كثيراً من المدن بهذا الكم من التناقض الذي تبدو عليه مدينة هرر الواقعة شرق إثيوبيا، وهي مدينة مسلمة تحتوي على كنيسةٍ كاثوليكية تهيمن على مشهد الميدان الرئيسي في بلدٍ مسيحي أرثوذكسي.
يقول مرشد محلي لموقع The Daily Beast: "حتى الضباع مقبولة هنا".
في مطعم قريب لجلسة إطعام الضباع، تضع النادلة بعض العدس الساخن والسَّلطة فوق صحنٍ يعلوه خبز إنجيرا الإسفنجي. تملأ الفراغات القليلة الموجودة على الطاولة بزجاجاتٍ من جعة هرار المشهورة، التي تُخمَّر على بُعد أميالٍ قليلة من مسجدٍ ينهى عن احتساء الكحوليات.
يُعتَقَد أنَّ هرر تحولت إلى الإسلام في القرن السابع، أي في الوقت نفسه الذي بدأ فيه النبي محمد نشر تعاليمه؛ لذا يعتبرها البعض رابع الأماكن المقدسة في الإسلام بعد مكة والمدينة والقدس.
ويزعم ممثلو المدينة أنَّها كانت أول مجتمع يَقْبل النبي محمد، واستقبلت الهجرة الإسلامية الأولى إلى الحبشة. وتعتبر هرر كذلك أحد مواقع التراث العالمي لليونيسكو؛ إذ تُقارَن أحياناً بمدينة فاس المغربية التي تنتشر فيها الأزقة. ويضم حي جوغول القديم والمزدحم 82 مسجداً، يبلغ عمر بعضها أكثر من 1000 عام، إضافةً إلى 102 ضريح.
لكنَّ "مدينة الأولياء" لديها أسباب أخرى لشهرتها، وهي أسباب أكثر إثماً؛ إذ يُقال إنَّ قهوة هرر هي أفضل قهوة في البلاد، وجعّتها تعتبر الأشهر أيضاً، والقات فيها هو الأقوى، والضباع فيها هي الأكثر وداً.
تمتد علاقة هرر بقاطنيها من هذه الحيوانات إلى 500 عام على الأقل؛ إذ تنتشر الشقوق في جدران المدينة العتيقة، مما يسمح للضباع بالتسلل دخولاً وخروجاً، ويُعتقد أنَّها قادرة على رؤية "الجن" الذي يتلبس سكان المدينة، وتخليصهم منه.
وفي احتفالية عاشوراء الإسلامية من كل عام، يجتمع الآلاف لتكريم هذه المخلوقات، في تقليدٍ محلي يبدو مناقضاً لقداسة المدينة؛ إذ يدعون زعيم قطيع الضباع ليأكل من الأوعية الخشبية الثلاثة التي تحتوي على عصيدة مُزبَّدة توضع خارج جدران المدينة. ثم يقيسون الكمية التي تناولها كي يتنبأوا بحظوظ العام القادم. فإذا تناول الضبع الطعام الموجود في الوعاء حتى فرغ منه تماماً، فسوف يكون عاماً مزدهراً. وإن كان غير ذلك، يوجب التقليد على السكان أن يصلّوا ويدعوا الله كي يُجنِّبهم المجاعة والمرض.
لم تكن العلاقة لطيفة دائماً. ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر، قيل لعالِم جغرافيا ألماني زار المدينة إنَّ الضباع أكلت "آلافاً" من سكان هرر على مدى عقود.
ويقال إنَّ هذه المخلوقات لا تزال تمر من خلال بوابات المدينة القديمة في الليل لتجمع الفتات من بين المنازل التقليدية المحفوظة، الملونة بالوردي الفاتح، والأرجواني، والأزرق، وتحمل علاماتٍ مميزة ذات تصميمات هندسية.
لا توجد عناوين لشوارع هرر، ولكن يستحيل أن تضل الطريق فيها؛ فكل شارع فيها ينتهي عند ميدانٍ مركزي مشهور، حيثُ تقدم المقاهي خبز إنجيرا الإسفنجي وغَرْفةً من عجين الفول، في حين يحيك الخياطون على ماكينات الخياطة.
يقول المواطنون إنَّهم ينتمون أولاً إلى هرر، ثم إلى إثيوبيا. وعلى الرغم من أنَّ الأمهرية هي اللغة القومية، يتحدث سكان المدينة اللغة الهررية، ولديهم مهن وطعام وتقاليد مميزة. كانت هرر في القرن التاسع عشر المركز التجاري للمنطقة، برغم أنَّ غير المسلمين كانوا ممنوعين من دخول المدينة حتى فترةٍ متأخرة من القرن التاسع عشر.
وكان أول زائر أوروبي للمدينة مستكشفاً يدعى ريتشارد برتون، تسلل إلى ما أطلق عليه "المدينة المحظورة"ـ متخفياً في هيئة تاجر مسلم، وذلك في عام 1855. وكتب برتون في روايته حول رحلته، أنَّ أهل هرر "يشتهرون بالتراخي الأخلاقي. الأغنياء والفقراء ينغمسون بِحُرية في المشروبات المسكرة والجعة".
وفي عام 1880، قبل ضم هرر إلى إثيوبيا بعدة سنوات، سافر الشاعر الفرنسي آرثر ريمبو من الصومال، واستقر في هرر، التي كانت تابعةً لمصر آنذاك. وبعد فترةٍ قريبة من بقائه بالمدينة، تخلى عن الكتابة واتجه لتجارة القهوة والأسلحة. والآن، تحوَّل منزل كبير في وسط المدينة، تعود ملكيته لتاجر، إلى متحفٍ أنيق ومنظم، يمتلئ بصور ريمبو وأشعاره وفنونه المحلية.
وفي إثيوبيا، التي تنتج أجود أنواع القهوة في العالم، يُقال إنَّ مصنع هرر ينتج أجود أنواع القهوة بالبلاد. ففي كتابه Coffee: A Dark History، يذكر المحنَّك أنطوني وايلد مدينة هرر، ويصفها بأنَّها "مهد القهوة نفسها"، ويشير إلى أنَّه "حتى منتصف الستينيات، كانت إثيوبيا تتكفل بالطلب العالمي على القهوة بأكمله".
لكنَّ شعبية القهوة تتضاءل أمام القات، وهي أوراق نباتية مُرة المذاق تمنح من يمضغها ثمالةً خفيفة. يغرس السكان من كل الأعمار طوال اليوم أيديهم داخل الحقائب الممتلئة بالنبات؛ كي يضيفوا مزيداً منه إلى الحشو داخل أفواههم، الذي تظهره خدودهم المنتفخة. لكنَّ القات ليس للاستخدام المحلي وحسب؛ إذ يوجد خارج هرر أكبر سوق للقات بالعالم، حيثُ تنتقل كميات من القات بعشرات الآلاف من الدولارات إلى الصومال وجيبوتي ليلاً.
أمَّا هذه الطرق التي تقود إلى خارج المدينة، فتنتشر فيها محطات لرسومات وكهوف ما قبل التاريخ والقرى الصخرية القديمة، وكذلك محمية للأفيال وسوق يأتي فيه التجار من الصومال، ويساوم بعضهم بعضاً على أسعار الجِمال.
وتمتد حقول شجيرات القات ذات الأوراق اللامعة بجانب الطريق، في حين توازن النساء اللائي يتطاير حجابهن كوماتٍ فوق رؤوسهن في أثناء سيرهن إلى السوق.
يفقد القات مرارته بعد 24 ساعة من قطعه؛ لذا يكومه الرجال في حقائب ويسارعون به نحو الشاحنات المسطحة التي تمضي في طريقها نحو الحدود الصومالية والجيبوتية. يعرف التجار أنَّهم قادرون على تحقيق الثراء هنا؛ إذ حققت سوهورة إسماعيل، التي يُقال إنَّها أغنى امرأة إثيوبية، ثروتها من بيع القات؛ وجَنَت المال الكافي لإطلاق خط طيران يحمل اسمها لنقل المحصول بين أرجاء المنطقة.
ينجذب أغلب زوار إثيوبيا إلى الكنيسة المنحوتة في الصخر بشمال البلاد، إلا أنَّ سكان هرر يقولون إنَّ مزيداً من السياح يأتون إليهم كل عام، ويجذبهم إليها ما تقدمه المدينة من مكانةٍ مقدسة وإغراءاتٍ آثمة، من ضمن ذلك العلاقة بين البشر والضباع.