من حق الرئيس محمود عباس أن يتنفس الصعداء، وهو يرى جولة الوفد الأميركي برئاسة جاريد كوشنر، صهر الرئيس دونالد ترامب، تحصد الفشل، كما يظهر من خلال تمسك البلدان العربية التي زارها، خصوصًا مصر والأردن، بضرورة أن يشمل أي حل إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
من المقرر أن يلتقي العاهل الأردني بالرئيس الأميركي - يوم أمس - في واشنطن تلبية لدعوة مفاجئة، في محاولة جديدة لثني الأردن عن موقفه، ودفعه لدعم صفقة ترامب الذي أعلن كوشنر أنها ستعلن قريبًا، سواء أوافق عليها الرئيس الفلسطيني أم لم يوافق، وهدد باللجوء إلى الشعب الفلسطيني، متوهمًا أنه سيكون له موقف مغاير لموقف قيادته، علمًا أن موقف الشعب أكثر تشددًا.
يكمن سر فشل جولة الوفد الأميركي في ارتكاب خطيئة ثانية، بعد الخطيئة الأولى المتمثّلة بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، التي لم يستطع أحد أن يبلعها من الفلسطينيين والعرب ومعظم العالم. وتتمثل هذه الخطيئة بطرح كوشنر على المصريين – وفق ما كتبه تسيبي بارئيل في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية – أفكارًا حول إقامة منطقة حرة من الحدود المصرية وحتى العريش، تقام فيها خمس مناطق صناعية يعمل فيها ثلثان من العمال من الفلسطينيين وثلث من مصريي سيناء، على أن يقام بعدها ميناء مصري فلسطيني مشترك، ومحطة توليد طاقة، وفي حال صار التنفيذ كما يجب، سيتم بناء مطار، على أن يبقى القطاع تحت سيطرة "حماس" بالتنسيق مع مصر.
أدى هذا الطرح كما يبدو إلى غضب مصري كونه يدلل على صحة ما يقال أن "صفقة ترامب" يمكن أن تتضمن الاقتصار على حل إنساني واقتصادي مركزه قطاع غزة، وأنها ستكون على حساب مصر من خلال البدء بإقامة المنطقة الحرة المزعومة على أراضيها. وليس من السهل أبدًا أن تقبل مصر باقتطاع جزء من أراضيها، خصوصًا بعد الضجة التي أحدثتها قضية جزيرتي صنافير وتيران.
كما يمكن تفسير ردة الفعل الأردنية بإدراك عمّان أن المطلوب منها المساهمة في تصفية القضية الفلسطينية، والتخلي عمليًا عن رعايتها للمقدسات في القدس مقابل فتات مالي، فمن غير المضمون توفّر الأموال الموعودة، لأن الإدارة الأميركية لن تساهم فيها، في حين أن الدول الخليجية غير متحمسة، خصوصًا في ظل الرفض السعودي الإماراتي لإشراك قطر في هذه العملية.
فليس المطروح كما يتردد من بعض الأوساط، ولا من السهولة، عودة الخيار الأردني بصيغته القديمة من خلال أن يحل الأردن محل منظمة التحرير للتفاوض حول استرجاع الضفة الغربية، بل خيار أردني جديد يجمع ما بين أن "الأردن هو فلسطين"، مع "الخيار الأردني" المقزّم، الذي يتضمن بأن يرضى الأردن بتغطية الضم الإسرائيلي لمعظم الضفة، مع بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية من النهر إلى البحر، وإلحاق أو إقامة علاقة فدرالية أو كونفدرالية بين الأردن والمعازل الآهلة بالسكان في الضفة، وربما معزل غزة أيضًا، الأمر الذي يطلق موجة جديدة من التهجير الفلسطيني الجديد، ويعرض الأردن إلى فتنة لا يستطيع أحد التكهن ماذا ستأكل في طريقها.
ما سبق لا يعني تبرئة الموقف العربي من المسؤولية على التجرؤ الأميركي على الحقوق والمصالح الفلسطينية والعربية، المتجسد بالتبني الكامل لما تطرحه إسرائيل، لدرجة أن قيادتها تمر بحالة نشوة، تدفعها للمضي بشكل أكبر لتطبيق مخططاتها الاستعمارية والتوسعية والعنصرية، فالعرب عارضوا الخطة الأميركية معارضة لفظية من دون الاستعداد لمحاربتها وإسقاطها، وألقوا العبء على الفلسطينيين بحجة أن "أهل مكة أدرى بشعابها".
ما سبق يعني أنه إذا وافق الفلسطينيون على "صفقة ترامب" سيجدون التغطية العربية لموافقتهم عليها، وهذا يختلف مع ضعفه عن قبولها والضغط على الفلسطينيين لقبولها.
تستوجب "صفقة ترامب" وضع خطة فلسطينية عربية لإحباطها، تبدأ بإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية – الصخرة التي تضمن إحباط الصفقة – وتنتهي بجمع كل عناصر الضغط والقوة السياسية والاقتصادية والديبلوماسية الفلسطينية والعربية. فإدارة ترامب رغم الخيبة والأزمة التي تواجهها جراء الموقف الفلسطيني الرافض للصفقة لا تزال تراهن على أن العرب سيمضون في دعمها من دون الفلسطينيين، ويشجعها على ذلك أن الموقف العربي ضعيف جدًا في معارضتها، ولا يرتقي إلى مستوى التحديات التي تطرحها. وإذا لم تتوفر متطلبات إحباطها، وعلى رأسها الوحدة الفلسطينية، فلا يوجد ما يطمئن لاستمرار المعارضة العربية الضعيفة التي يمكن أن تتحول إلى قبول، وخصوصًا إذا عدلت الصفقة المسمومة، رغم أنه وضع بعض العسل عليها لا يعني أنها لم تعد قاتلة.
في هذا السياق نحذر مما يطرحه العديد من القادة العرب من ضرورة استئناف المفاوضات من دون اشتراط سحب "صفقة ترامب" من التداول، لأنه لا يوجد على الطاولة ما يمكن التفاوض حوله، وإنما "صفقة" أميركية إسرائيلية ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية.
وما يمكن أن يعزز ضرورة إحباط "الصفقة الأميركية" أن ترامب يثبت بشكل متزايد أنه لا يمكن الاعتماد والرهان عليه، فموقفه غير ثابت، كما لاحظنا في العديد من القضايا، وكان آخرها انتقاله من التهديد بالحرب النووية ضد كوريا الشمالية إلى التصالح معها.
حذرنا ونكرر التحذير من استمرار الوهم عند بعض العرب بالرهان على أن أميركا ترامب وإسرائيل ستحاربان إيران كرمال عيون العرب وأموالهم، مع أن إيران جارة نختلف معها حول العديد من القضايا ولكنها ليست عدوًا.
نأمل أن يكون قد بات واضحًا الآن لعرب أميركا أن ترامب لا يمكن المراهنة عليه، وأنه سيحارب إيران فقط إذا وجد في ذلك مصلحة أميركية، مع العلم أن الحروب التي شنها أسلافه ضد العراق وأفغانستان وغيرهما لم تحصد إلا الفشل. كما أن بقاءه في البيت الأبيض غير مضمون لأكثر من انتهاء فترته الرئاسية الأولى، لذا على عرب أميركا الامتناع عن إعطائه كل شيء، حتى فيما يتعلق بالقدس وفلسطين، قبل أن يضمنوا تحقيق أي شيء.
لا يجب التهوين من صفقة ترامب بالقول إنها ولدت ميتة، أو أن الرفض الفلسطيني قتلها، أو التهويل بها وكأنها قدر لا راد له، وأن العرب الأميركيين قد وافقوا عليها ويضغطون على الفلسطينيين لقبولها، وأنهم مستعدون لتجاوزهم إذا استمروا في رفضها، فهناك فرق بين الموقف العربي الحالي السيئ والضعيف وبين التجند لدعم الخطة الأميركية.
إن الرفض الفلسطيني الشجاع المستمر للخطة الأميركية الإسرائيلية يرجع إلى كونها تقوم على تشريع الحقائق الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية التي أقامتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الأرض منذ الاحتلال وحتى الآن، والتي تزايدت معدلاتها بعد توقيع اتفاق أوسلو.
إن الرفض الفلسطيني بحدوده الحالية مهم، كونه أدى إلى عرقلة وتأزيم التحرك الأميركي للتمهيد لعرض "الصفقة"، لكنه لم يؤد إلى إحباطها، كما تدل مواصلة الإدارة الأميركية لمساعيها لتمريرها، وما يعنيه ذلك من تزايد احتمال السعي لتجاوز القيادة الفلسطينية، وتشجيع قيام بدائل عنها، حتى لو أدى ذلك إلى دفع الوضع الفلسطيني إلى مزيد من الشرذمة والانقسام وإثارة الفوضى كمدخل لإعادة بناء السلطة على أساس يلبي متطلبات تمرير "الصفقة".
المخرج واضح، ويكمن السر في تحقيقه في إنجاز الوحدة القائمة على الشراكة الحقيقية من دون تفرد ولا محاصصة فصائلية، ولا هيمنة، ولا إقصاء، ولا تخوين، ولا تكفير، ولا احتكار للوطنية والدين والحقيقة. شراكة تستنفر كل طاقات الشعب وإمكاناته وقواه بصورة لن يستطيع أحد حتى بمجرد التفكير بتصفية القضية الفلسطينية التي حماها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مائة عام وقادر على حمايتها مجددًا.