من نهال قصراوي
في الليلة الخامسة والعشرين من شهر رمضان المبارك قررت الذهاب لمنزل الشابة أسيل سمور(22سنة) التي عانت من مرض الثلاسيميا لسنوات طويلة
إرتديت ملابسي, وخرجت من المنزل بخطواتٍ متسارعة في حدود الساعة الثامنة والنصف مساءً إلى مدينة جنين حيث تسكن أسيل, وفي طريقي كان الظلام حالكاً حملت هاتفي لأتصفح "الفيسبوك" من خلال شبكة 3G", وأصبت بالذهول عندما ظهرت أمامي صورةً قد شاركتها أسيل لها قبل ثلاث سنوات, وهي ترتدي الشعر الإصطناعي "الباروكة" ذات لون عسلي زاد من جمالها, وفي الوقت ذاته تصارع المرض.
شد إنتباهي المعنوية العالية التي ظهرت بها, وهذا دفعني للتساؤل, ما هذه القوة التي جعلت فتاة بعمر الزهور تضع صوراً كهذه على مواقع التواصل الإجتماعي؟
أغلقتُ الهاتف,ونظرت من نافذة السيارة ,وكانت الطريق مزدحمة جداَ وكأن الناس يتنبؤون بقدوم حرب ثالثة لكثرة ارتيادهم على المحال التجارية, قد يكون الأمر طبيعياً بسبب إقتراب عيد الفطر السعيد, وهذه الأجواء استعداداَ لاستقباله.
وظل التفكير ينهش عقلي بهذه الفتاة صاحبة الإرادة القوية حتى وصولي, وفي تلك اللحظة إلتقطت أنفاسي, وقرعت الجرس,¸فأستقبلتني أسيل بإبتسامتها المعتادة التي رسمت على وجنتيها, ورحبت بي والدتها ترحيب حار وكأنها تعرفني منذ زمن على الرغم من أنني التقيتها قبل ذلك مرة أو إثتين , لكن أعجبني هذا الإرتياح الذي بدا واضحاً على وجهها.
جلست في الصالون على مقعد رمادي وخلفه ستائر بلون دم الغزال شعرت بالسعادة عندما نظرت إلى هذا اللون, فهو جميل وهادئ.
وبدأت أتبادل أطراف الحديث مع لينا سمور والدة أسيل التي أوضحت لي كيف علمت العائلة بمرض أسيل, وقالت: عندما كان عمر أسيل ثلاثة أشهر كنت اصطحب شقيقتها الكبرى أية الى المستشفى لعلاجها بسبب وجود آلام في بطنها, وفوجئت بطلب الطبيبة لإجراء بعض الفحوصات الطبية لأسيل لإكتشافها من ملامح وجهها البريء أن هناك شيء ما بهذه الطفلة, وبعدها اتضح لنا أن أسيل مصابة بالثلاسيميا, ومن هنا بدأت المعاناة.
نظرت الوالدة إلى ابنتها والفخر واضحاً في عيناها وأكملت حديثها: الحمدلله الذي أنعم الله على أسيل الصحة والعافية, وأنا ممتنة لصبرها وقوتها فهي لم تعش طفولتها كباقي الأطفال لأنها أمضت حياتها في نقل الدم كل ثلاثة أسابيع, وعندما كنت أراها في هذه الحالة يتمزق قلبي ألماَ.
واستدرت يميناً ونظرت إلى أسيل وهي تربط شعرها الأسود الذي أرخى سدوله على عنقها قائلة: لقد مررت بظروف صعبة للغاية, ورافقني المرض طيلة سبعة عشر عاماَ, أي أنني لم أمارس حياتي كما يجب, فقد أمضيتها بالمستشفيات أنقل وحدات الدم أو أتناول دواءَ لخفض نسبة الحديد الذي أرتفع نتيجة أخذ جرعات من الدم بين الحين والآخر, وخاصة مستشفى ايخيلوف الإسرائيلي الذي مكثت فيه تسعة أشهر.
وتذكرت أسيل أيامها في المستشفى وتابعت: لقد أخذت خمسة عشر جلسة علاج من الكيماوي بشكل متتالي,وتساقط شعري كما أن وزراعتي لنخاع جديد حصلت عليه من متبرعة ألمانية التي طابقت تركيبتي الوراثية بعد رحلة بحث استمرت ثلاثة أشهر أنهنكني التعب, وظنَّت عائلتي أنني سأفارق الحياة لا محالة, وهذا ما أكد عليه الأطباء أيضاً.
وبنظرةٍ إيجابية قالت: لم تكن فترة مكوثي في المستشفى سيئة إلى هذا الحد, فقد كونت صداقات جيدة مع المرضى والأطباء, ما زلت على تواصل معهم حتى الآن, ولمعت عيناها وهي تقول: لن أنسى لقب الداعم الأول للسرطان الذي منحني ياه الكادر الطبي , بسبب طاقتي الإيجابية التي نشرتها حولي, خاصة لمريضة كانت فاقدة للأمل, ولكن بعد تقوية العلاقة بيني وبينها تغيرت بنسبة 360 درجة.
خطفت بصري تجاه المطبخ , ورأيت هديل الأخت الصغرى قادمة وهي تحتضن بين يديها صينية وأربعة أكوابِ من الشاي الذي بدا لي من لونه الذهبي أنه شهياَ جداَ قبل أن أتذوقه, وجلست بجواري وقالت هديل: نحن كانت كل دعواتنا للسماء أن تعود لنا أٍسيل بصحة وسلامة, ولذلك كنت أؤجل أنا وأية جميع مشاريعنا الترفيهية حتى تعود أسيل ونفعلها سوياً.
وبهدوء تام تسللت أسيل من غرفة المعيشة, ولحقت بها إلى غرفة نومها دون أن تنتبه ولكني أشعرتها بوجودي فأنشق بياض أسنانها مبتسمة وقالت اقتربي أكثر, وأندهشت كثيراً عندما رأيتها تمسك بين يديها بحرارة كيسأ أبيض اللون وبه بقايا من الدماء, وسرعان ما أخبرتني أن هذا كيس الزراعة ما زلت احتفظ به حتى الآن.
وفي هذه اللحظة وقع نظري على سريرها الذي يتوسط أسرة شقيقاتها, وشد إنتباهي الذي يحمل دمية صفراء اللون, وابتسمت لأن الدمية ذات لون الشمس منحتني شعوراَ بالطاقة الإيجابية, عدت لتركيز اهتمامي على أسيل التي تركت كيس الزراعة جانباَ وحملت شيئاَ آخر يدعى جهاز"هيكمان", وهو التي من خلاله تأخّذ جلسات الكيماوي كما فسرت.
وعدنا إلى غرفة الجلوس, وتفحصت الحائط الذي ضم صورةَ لأسيل وهي صغيرة برفقة والدتها وبدا لي أنها ما زالت تحتفظ بملامحها الطفولية حتى الآن, وحدثتني أسيل وهي تحدق في الصور عن أصعب التحديات التي واجهتها في تلك المرحلة وكانت أهمها أنها لم تستطع إكمال دارستها الثانوية بسبب مرحلة العلاج إلا أنها "واست" نفسها بأن "التوجيهي" يعاد كل سنة أما الحياة فهي مرة واحدة فقط.
وأكملت حديثها والأمل واضح في عينيها: لقد فقدت شعري ولم يبقى منه خصلة واحدة بسبب الجلسات الكيماوية, وحاولت ارتداء "الباروكة" لاكتساب شعر جديد ولكن قوة ما في داخلي جعلتني أتخلى عنها وأبقى كما أنا, فأيقنت حينها أنني جميلة في كل الأوقات.
وتابعت بأسف أن المجتمع هنا في جنين لا يرحم أحداً , فعندما كنت أعود إلى المدينة ومظهري يختلف قليلاَ عن الآخرين بسبب العلاج , إلا أن نظراتهم كانت تلاحقني كأنني مخلوقاً غريباً, فهم لن يتقبلوا هذا الإختلاف, ولم يسعفوني برحمتهم أبداَ, لكن ثقتي بنفسي كانت تكفيني للمواجهة والتحمل.
وفي جوِ ساده الصمت ثلاثة دقائق عبرت أسيل عن فرحتها بشفاءها الذي حقق نسبة مئة بالمئة من نجاح العملية وهذه النسبة مستحيلة في مرحلة متقدمة من العمر.
وأضافت أنها الآن تدرس تخصص لغة عربية واعلام في الجامعة العربية الامريكية, وبهذا تكون قد حققت حلمها في دخول مجال الإعلام لإيصال رسالتها بأن المرض ليس عائقاَ في تحقيق الأمنيات.
وابتسمت بعفوية لتخبرنا عن مقولة محمود درويش والتي تقتدي بها " أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة", وتابعت بنبرة صوت حيوية لتصف نفسها بالمعجزة لأنها ولدت مرتين, الأولى من رحم والدتها, والثانية من جوف الحياة, وشددت على أن فاقد الأمل هو فاقد الحياة.
صافحتها للوداع متمنيةَ لها الحياة السعيدة والإنجازات العلمية والمهنية كما ترغب أن تكون, فهزت رأسها بالموافقة والإشادة بكلامي قائلة : نلتقي في ميدان العمل إن شاءالله لنكون زملاء المهنة في المجال الإعلامي.
غادرت منزل أسيل تاركةً قلبي معها, فالوقت مضى كأنه ثوانٍ معدودة, وسارت معي أسيل إلى باب البناية حيث تسكن في الطابق الأول من عمارة الربيع مقابل قاعات الأمير للأفراح, ووجدت أبي يننظرني بسيارته البيضاء المحملة بالبضائع لدكانه في قريتنا.
وأثناء جلوسي في السيارة استعداداَ للعودة تذكرت والدة صديقتي " أم محمد" (50 عام), التي عانت من مرض السرطان لسنوات, والمؤسف في ذلك حقاَ أن جسدها لم يحتمل أي جلسات علاجِ كيماوية كما أوضح الأطباء, فباتت تعيش على المسكنات, وتنتظر رحمة الله عليها بصمت, فدعوت الله أن يكون لها معين في الدنيا والآخرة.