أخيرا أقسمت الحكومة الفلسطينية التوافقية اليمين القانونية أمام الرئيس محمود عباس بعد طول أخذ ورد. الناطقون الرسميون باسم الأطراف المعنية بهذه الحكومة، ووسائل الإعلام كلها توافقت على أن هذه الحكومة هي حكومة توافق. غاب تماما عن الخطاب السياسي لحركتي فتح وحماس، وعن الإعلام تعبير "الوحة الوطنية" الذي طالما رفعته هذه الجهات كل لغاياته الخاصة، حيث اقترن الحديث عن المصالحة وإنهاء الانقسام بعبارة "استعادةة الوحدة الوطنية". فلماذا لم يطلق على هذه الحكومة اسم "حكومة الوحدة الوطنية"؟ قبل الإجابة على هذا السؤال وتوخيا للدقة والوضوح، فإن حجيثنا هنا يتعلق بالمنطق والأساس الذي تشكلت الحكومة تبعا له، وليس على الحكومة ذاتها، أو ما هو متوقع منها.
علينا أولا أن نلاحظ بأن لهذه الحكومة على المستوى السياسي أهمية فائقة بالنسبة للرئيس الفلسطيني محمود عباس، والموقف الفلسطيني التفاوضي. فحتى اللحظة تعرض الفلسطينيون للابتزاز بحكم الانقسام: قيل لأبي مازن بأنك تفتقد الشرعية لأن قطاع غزة ليس تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، وهذا كان بمثابة "كعب أخيل". وفي كل مرة كانت تتقدم الاتصالات لإنهاء الانقسام كان يقال له: عليك الاختيار بين حماس وبين المفاوضات. كانت هذه ثنائية مستحيلة، ومن هذه الزاوية فإن تشكيل حكومة التوافق قد كسر هذه الدائرة المغلقة. ولكن! إلى أي مدى بوسعنا الاعتماد على هذه الخطوة كنهاية للانقسام على المستويات البنيوية، السياسية، المجتمعية، والوطنية؟
دعونا نستعين بتاريخ الممارسة السياسية الفلسطينية لنتبين الفرق بين توافق اليوم، وبين توافق الوحدة الوطنية المعروف تاريخيا في الحياة السياسية الفلسطينية. لقد كانت القاعدة الأساسية للحياة السياسية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية هي التوافق consensus، وهو تعبير أقرب إلى معنى الإجماع. قام ذلك التوافق على ركيزتين: الأولى أنه كان توافقا ثوريا، أي أنه جسد الالتقاء على برنامج قاسم مشترك تحرري كفاحي، والثانية أنه كان لا يستثني أي من القوى (الفصائل). هذه هي (إلى حد ما) الشرعية الثورية، أو يمكن اعتبارها ديمقراطية ثورية تستند إلى قاعدة واسعة من الوحدة الوطنية.
بهذا المعنى فإن حكومة التوافق اليوم تقوم على توافق حصري بني حركتي فتح وحماس، وهي لا تعكس مدلولات الوحدة الوطنية، ولا الشرعية الديمقراطية الثورية، على الأقل ليس من زاوية التجربة الكفاحية الفلسطينية. ومن زاوية بناء الإجماع اللازم لمراحل التحرر والبناء الوطنيين، كشرط ضروري لتجنب التشرذم وتحشيد الطاقات، فإن المنطق الذي قامت عليه هذه الحكومة ليس وظيفيا من هذه الناحية. في تشكيلها وتحديد مهماتها غاب عن هذه الحكومة قاعدة التوافق بمعناها الوطني الشامل، كما غاب عنها البرنامج الكفاحي المشترك. إنها حكومة التوافق بين قطبي السياسة الفلسطينية. من الناحية السياسية فإن هذه الحكومة ستلتزم بالبرنامج السياسي للرئيس، ولن يكون من حقها في هذه الحالة أن تشتق برنامجها السياسي، ناهيك عن خضوع برنامجها وممارساتها لرقابة المجلس التشريعي. وهذا الأخير مغيب تماما عن أخذ دوره مما يلقي بظلال كثيفة من التساؤل عن مقدار ديمقراطية العملية برمتها، وبالتالي مقدار شرعيتها. لا نقول ذلك للطعن في هذه الحكومة، بل لنسلط الضوء على المخاطر الذاتية البنيوية التي ستحد من قدرة هذه الحكومة على الأداء الفعال، ومن مدى رضا الناس عنها. كلا الفصيلين، فتح وحماس اختارا التضحية بالشرعية الديمقراطية التي تشكل السند الأكثر متانة لحياة سياسية صحية، لمصلحة حساباتهما الخاصة.
إن حكومة بدون استراتيجية سياسية متفق عليها وطنيا ستبقى أسيرة نهج سياسي خلافي على نطاق واسع وطنيا، وثبت مرة تلو مرة عقمه وقصوره. في ظل غياب مثل هذا البرنامج إلى جانب عدم المس بالأمر الواقع في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة: السلطة حافظت على سيطرتها المطلقة (في إطار ترتيبات أوسلو) في الأولى، وحماس في الثانية، وبخاصة في مجال الأمن. إذا ما تركنا جانبا حقيقة أن أي من طرفي الانقسام/التوافق لا يملك القدرة على استخدام القسر (العنف) المشروع في حيزه الخاص بحكم أن إسرائيل هي من يمارس هذا العنف، فإن احتفاظ كل منهما بحقه الخاص والحصري في السيطرة الأمنية يعني أن لكل منهما شرعيته الخاصة، والتي بات يُعترف بها تبادليا بين الطرفين وإن كان بصورة ضمنية. وهذه حكومة لم تذهب باتجاه المصالحة المجتمعية، بل نحو التقاسم الفصائلي-الجغرافي (الجهوي) في الضفة وبين الضفة وغزة..
بهذه المعاني كلها فإن تشكيل الحكومة وفق هذه الأسس قد كرس واقع الانقسام وحوله إلى واقع مقبول وشرعي باسم التوافق، أو بعبارات أخرى فقد تم ترسيم الانقسام ومأسسته. هي حالة أقرب إلى أحد شكلين من النظم السياسية: الديمقراطية التصالحية (الاتفاقية) التي تكرس انقسامات مجتمعية عميقة من خلال الاعتراف بها ومنحها شرعية مؤسسية وسياسية مثل لبنان وبلجيكا، أو الفدرالية تحت الاحتلال والتي يصلح أن نسميها فددرالية ألتراUltra، لكنها بالتأكيد لا تجسد الوحدة الوطنية المستندة إلى استراتيجية كفاحية جامعة في مواجهة الاحتلال.