بقلم: عبد الستار قاسم
المنطق التاريخي والديني يقول إن اليد العليا خير من اليد السفلى، وهي الأقوى وهي صاحبة القرار. ويد من يتلقى الخير من غيره لا يمكن أن تعلو وتبقى أبدا في وضع دوني. وفي هذا كان الرئيس الأمريكي واضحا عندما قال إن على الذين ينعمون بحماية أمريكا أن يرفعوا مستوى إنتاج النفط. ورسالته جلية وهو يعني دولا عربية وغير عربية، لكنه يشير إلى دول الخليج خصوصا.
من المعروف أن بريطانيا هي التي تولت أمر الجزيرة العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ووزعت الأراضي والنفوذ والمسؤوليات بين القبائل وفق إرادتها هي. وبالتالي كانت بريطانيا صاحبة القرار الخليجي مع علم الجميع أنها قادرة على استبدال قبيلة بأخرى إن لم ترض عن آليات تنفيذ مصالحها وتحقيقها. وبعدما أفل نجم بريطانيا، تولت أمريكا أمر الخليج وحماية الأنظمة السياسية القائمة. وتولت أيضا حماية أنظمة أخرى مثل النظام الأردني والكيان الصهيوني. ومنذ زمن، وأمريكا تتربع على عرش القرار العربي والقرار الخليجي على وجه الخصوص، وهي تعبث بمقدرات هذه الدول وفق ما تراه مناسبا.
الهيمنة الأمنية والعسكرية
سبق لرئيس أمريكا أن قال لدول الخليج إنه لولا الحماية الأمريكية لما كانت الأنظمة السياسية القائمة حاليا موجودة. وهذا صحيح ذلك لأن أمريكا توظف قوة عسكرية ضخمة في الخليج لمنع أي اعتداء على دول الخليج، ولحماية الخليج من تسلل دول أخرى يمكن أن تنافس على النفط. وأمريكا دائما تتمنن على الدول الأوروبية واليابان بأنها تحمي مصادر الطاقة الضرورية لعجلات الإنتاج، وهي غالبا تجبر الأوروبيين واليابانيين على المشاركة في مغامراتها العسكرية في المنطقة بالمال على الأقل.
أمريكا تريد الإبقاء على تدفق النفط للعالم الرأسمالي الاستعماري، وهي حريصة جدا على تجنب المفاجآت التي يمكن أن تهدد الإمدادات النفطية. وهذا هو ركن الزاوية في العداء الأمريكي لإيران التي تحاول جمع دول الخليج لضمان أمن الخليج بمعزل عن أمريكا. وحتى تتمكن أمريكا من إقفال الملف الأمني لصالحها، كان لا بد من المحافظة على الأنظمة السياسية القائمة بوعي من الأنظمة نفسها بأنها موجودة بفضل الإرادة الأمريكية. ولم تكتف أمريكا بذلك، وإنما سعت دائما إلى تجنيد عملاء لها في دول الخليج والأردن وغيرها من الدول جاهزين لاستلام نظام الحكم إن دعت الضرورة لإحداث تغيير. أمريكا تحتفظ بأجهزة أمنية داخل أجهزة أمن الدول القائمة، وتحتفظ بعملاء خارج هذه الأجهزة بخاصة في القصور الملكية والأميرية والمؤسسات الحيوية، ولديها الاستعدادات الكافية لتغيير نظام الحكم بسهولة. الأنظمة العربية ليست غائبة عن هذه الحقيقة، ومن المحتمل أن رأس النظام السياسي مجند استخباريا لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وهذا ليس سرا بشأن دول مثل الأردن والمغرب.
ومع الترتيبات الأمنية، سعت أمريكا عبر الزمن على تطبيق ترتيبات ثقافية تركز أساسا على الدولة القطرية، وتشكك في جدوى الوحدة العربية. وتعمل على تغيير المفاهيم الثقافية العربية وقيم ما نسميه بالأصالة العربية. سعت إلى إقامة قوميات عربية، وتثقيف شعوب تنفصل بعضها عن بعض وبرغبة نحو العمل الجماعي متدهورة مع الزمن. نحن العرب بدأنا بفكرة الوحدة العربية، ثم تنازلنا إلى فكرة التضامن العربي، ووصلنا إلى مرحلة العمل العربي المشترك، وأخيرا إلى حروب متبادلة تشرد العرب وتقتلهم وتمزقهم بالمزيد. وقد نجح الأمريكيون بالتعاون مع الأنظمة العربية بهزيمة العرب ثقافيا، والحرب الثقافية تستمر مستعرة حتى الآن.
أموال النفط
الانطباعات الغربية التي ترتقي إلى مستوى القناعات عن العرب بأنهم شهوانيون، ويسعون دائما إلى إشباع شهواتهم ولو على حساب قيم إنسانية وعلمية ومهنية. إنهم عبيد لفروجهم وأمعائهم، وهم يطمئنون لغيرهم إن قدم لهم ما يرغبون به. وقد استغل أهل الغرب هذا المنحى لخدمة سياساتهم وللسيطرة على القرار العربي. وهذا ما لاحظناه من خلال تعامل الصهاينة مع قيادات عربية عديدة. لقد أمسكوت برقاب العديد من القيادات من خلال النشاطات الجنسية والشهوانية الأخرى. وقد أتاحت القيم الغربية المنفتحة إجمالا فرصة كبيرة أمام استعباد صاحب القرار العربي.
وإذا كان العرب عبيدا للشهوة فإنه من الممكن استغلال ذلك من أجل السيطرة على أموالهم التي لا يتمكنون من استعمالها للبناء والتقدم والرقي بالمجتمعات، والأفضل استنزافهم ماليا. الافتراض أن الشهواني ليس عاقلا إلا بحدود أساليب ووسائل إشباع الشهوة، وهو لا يستحق المال الذي يمكن توظيفه في عمليات البناء.
العرب لديهم مال كثير، وهو مال أهل الغرب والدول الصناعية التي تستورد النفط، ولا بد من استرجاعه لتكون له فائدة على المجتمعات الصناعية. ولهذا شقت الدول المتنفذة عالميا طرقا عدة نحو استعادة أموالها وهي: تسليح الأنظمة العربية الثرية، والتلاعب بالبورصات العالمية، واستقطاب الاستثمارات. عملت الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة على صناعة أعداء وهميين لدول الخليج من أجل الإقبال على شراء الأسلحة، وفتحت المجال أمام دول عربية أخرى لصناعة الأعداء وخوض الحروب مثلما حصل مع صدام حسين والقذافي. ومن خلال تجارة الأسلحة، استعادت الدول الغربية الكثير من الأموال التي دفعتها ثمنا للنفط. واستغلت هذه الدول البورصات العالمية لتسحب أموال النفط من خلال التلاعب بأسعار الأسهم والعملات. وأيضا تمكنت تلك الدول من إقناع حكام العرب بالاستثمار في بلادهم بدل الاستثمار في البلدان العربية، وسحبت مئات مليارات الدولارات من الخزائن العربية.
ورأي الغرب في أنه بدل أن تبقى هذه الأموال خاملة لا يحركها العقل العربي المستعبد شهوانيا يستثمرها أهل الغرب بما هو مفيد. والعرب ليسوا بحاجة للتفكير وهم لا يرونه أولوية لهم فإن أهل الغرب يفكرون بالنيابة ويقدمون للعرب ما يجعل حياتهم سهلة وذات رفاهية مفرطة تعتمد التبذير والبديد.
هل قناعات الغرب حول العرب صحيحة أم لا؟ هذا شأن آخر، وما نراه يؤكد نجاح سياسات أهل الغرب في المنطقة العربية الإسلامية.
اليد السفلى نقيض السيادة
تتبجح دول عربية كثيرة بأنها ذات سيادة، ولا تسمح لأحد بانتهاك سيادتها. هذا لغو إعلامي لا قيمة له، وأغلب البلدان العربية لا سيادة لها وتحكمها إرادة الغير. الأنظمة العربية التي تعيش تحت المظلة الأمنية الأمريكية لا سيادة لها، ولا تتمكن بتاتا من اتخاذ قرارات مستقلة حتى في شؤونها الداخلية دون رضا السيد الأمريكي. دول الخليج تندرج تحت هذا التصنيف، وكذلك الأردن والمغرب ولبنان إلى حد كبير. والدول التي تتلقى مساعدات مالية من دول الغرب ولا تتمكن من صرف الرواتب آخر الشهر بدون هذه المساعدات لا تملك أمرها. وهكذا هو وضع صاحب اليد السفلى. من يختار العيش تحت مظلة الآخرين يختار أن يكون عبدا ومرتهنا لإرادة الغير. ولهذا من الصعب أن نصنف الدول العربية على أنها دول مستقلة وتستطيع أن تقرر لنفسها بنفسها.
أمر ترامب بزيادة إنتاج النفط
ما دام ترامب قد أمر فإن مستوى إنتاج النفط عالميا سيرتفع، وستقود السعودية حملة رفع هذا المنسوب على الرغم من الأضرار التي ستنجم للدول المنتجة وعلى رأسها السعودية نفسها. هناك احتياط نفطي هائل في السعودية، لكن الأوامر الأمريكية تتعجل استنزاف هذا النفط. وإذا نجح الغرب بإنتاج الطاقة النظيفة بأسعار تجارية تقل تكلفتها عن تكلفة استعمال النفط فإن مصيبة كبيرة ستحل بمنتجي النفط على المستوى العالمي. وإذا كان العرب بالذات سيرفضون أمر ترامب فإن عصاه غليظة وإمكاناته لتنفيذ أمره واسعة ومؤثرة.
لترامب مصلحة أمريكية مباشرة في رفع مستوى الإنتاج العالمي من النفط وذلك يتعلق بالفاتورة الأمريكية المترتبة على الاستيراد، وبخضوع الدول الغربية للإرادة الأمريكية القادرة على تخفيض قيمة الفواتير. وله مصلحة أيضا في التضييق على إيران وروسيا بما في ذلك من تخفيض كمية الأموال المتدفقة للخزينتين الروسية والإيرانية وعرقلة مشاريعهما الاقتصادية والاستثمارية. أمريكا معنية بخنق روسيا وإيران، وهي تستعمل العرب أدوات لهذا الخنق.
لا مصلحة للعرب بمحاربة إيران وروسيا، لكن مصالح الأنظمة تقتضي ذلك لأن المصلحة الأمريكية تتطلب ذلك. وبهذا تجند الأنظمة العربية نفسها مطواعة لزيادة عدد أعداء العرب، ولزيادة قوة أمريكا التي تمكنها في النهاية من السيطرة بالمزيد على العرب. سياسات الأنظمة العربية تجعل من العرب أكثر ضعفا أمام الذين يهيمنون عليهم. وبعض العرب يرون الآن أن قوة الصهاينة الذين هم العدو الأول للأمة قوة لهم في مواجهة أعدائهم الوهميين.