الرئيسية / الأخبار / فلسطين
بين أمٍ وابنتها...قدرٌ يعيد نفسه
تاريخ النشر: الأحد 22/07/2018 20:59
بين أمٍ وابنتها...قدرٌ يعيد نفسه
بين أمٍ وابنتها...قدرٌ يعيد نفسه

كتبت دينا الصالحي

في منزلٍ مكونٍ من سبعةِ أفراد، عائلةٌ حالها كحال العائلات الفلسطينية، واجهت مصاعب خجل التاريخ عن تدوين قسوتها، آلام لا زالت مستمرة وقهرٌ لا يفارق ذاكرة من تبقى منها.
قصة مي الزبن وعائلتها لم تُنسج من وحي الخيال، بل نسجها أسيرٌ خلفَ قضبان الأسر وآخرون نسجوها بدماء الشهادة.
في جبل جرزيم في مدينة نابلس تروي مي قصتها لموقع أصداء الإخباري ...

طفولة مي الزبن :
منذ أكثر من واحد وثلاثين عام بدأت معاناة عائلتي، كنت حينها في عمرٍ لم يتجاوز الستة أعوام، وقد اعتدت على رؤية جنود الاحتلال حول المنزل.
كانت الإنتفاضةُ الأولى في ذروتها، فصوت رشقات الرصاص من الجنود وأصوات طرق الحجارة على الجيبات العسكرية كان أمرٌ معتاد، كاعتيادي على سماع الأغاني الثورية يومياً.
نعم، هكذا كانت الطفولة في تلك الفترة، يملؤها حب فلسطين وحب الوطن فما تلبث معلمة الصف الأول أن تطلب منا رسم ما يجول في أذهاننا إلّا وترى علم فلسطين يزين الورقة.
الإعتقال الأول لإخوتي عمّار وبشّار :
في أحد الليالي المشتعلة كنت انا ووالدتي نجلسُ كعادتنا في الصالة نستمع للنشرة الإخبارية، شعرت بأن والدتي قلقلة كغير عادتها على إخوتي وكأن قلب الأم شعر بأن المكروه قد وقع على أولادها
جاءنا خبر اعتقال بشّار وعمّار تلك الليلة، وهنا بدأت حياتنا تنقلب رأساً على عقب فبعد ذلك الإعتقال بدأت المسيرة الصعبة في حياتنا جميعاً.


عيد الشهادة..
"استشهد سندي الأكبر" فقدنا بشّار في ليلة العيد، كان قد طلب من والدتي أن تعدَّ له كعك العيد فكان يفضله عن غيره من الحلويات، ولكن شاء القدر أن يكون عيده بالجنة حيث لا ظالم ولا مظلوم.
منذ رحيل أخي بشّار حرَّمت أُمي على نفسها إعداد كعك العيد أو تناوله، كنت دائماً ما أقولُ لها كفاكِ يا أُمي إنَّهُ في جنات الخلد شهيد بإذن الله، كنت أُحاول أن أجعلها تنسى أو حتى تتأقلم مع الواقع..
أما أخي عمّار فقد قرر الإنتقام لأخيه الأكبر، فأكمل دربه في النضال والدفاع عن الوطن.
"يارب أشوفك يما وأحضنك قبل ما أموت"، هذا ما اعتدت على سماعه من والدتي...
اعتُقِلَ عمّار في بداية نضاله اعتقالا إداريا دام ستة أشهر ثم اعتقل بتاريخ 11/1/1998، أي بعد أربع سنوات من تلقينا خبر الشهادة، بتهمة التخطيط والتنفيذ لعدة عمليات أدت اثنتان منها لقتل 20 مستوطن وإصابة المئات فحكم عليه بالسجن مدة 25 مؤبداً وعشرين عاماً أخرى.
كنت أستيقظ من نومي لأسمعَ صوت والدتي وهي تتحدث مع صور بشّار وعمّار وتحتضنهم، كان دعاؤها الدائم أن يقرَّ الله عينها برؤية أسيرها محرراً بين زوجته وبناته.
دائماً ما كنت أستغرب من دعائها لعمار بشكل يومي دون كلل أو ملل، على الرغم من انقضاء أكثر من عشرة أعوام لأسره، أما آن لها أن تتعايش!

أمي في جنات الخلد :
عمّار كغيره من الأسرى خاض إضراباً مفتوحا عن الطعام مطالباً بحقوقه التي حرمه الإحتلال منها، لم تستطع والدتي الإستمرار بحياتها وفكرةِ الموت البطيء باتت تحاصر ابنها الثاني في زنزاته، فقررت الإنضمام لخيمة الإعتصام والإضراب مع ابنها عن الطعام .
حاولت ثنيها دون توقف فكنتُ أعلمُ أن صحتها لن تتحمل هذا التعب، لكنها أصرّت على المضي بإضرابها عن الطعام فكانت تقول: "كيف لي أن أتناول الطعام وابني عمّار مضرب عنه؟"
تدهورت حالتها الصحية وأُنهكَ جسمها النحيل، فتم نقلها إلى مستشفى المقاصد في القدس، لفتتها خيمة اعتصام قرب المسجد الأقصى فأبت إلّا أن تتضامن معهم.
كان أملها أن تضم ولدها عمّار إلى صدرها لكنها ذهبت لبشّار، استشهدت أمي بتاريخ30/8/2004 وشُيَّعت جنازتها في اليوم التالي بحشود غفيرة من خيمة الإعتصام وخلال التشييع تعرض أبي لإنهيار خلال مراسم الدفن من هول ما عاناه...


والدي في حالة إنهيار عصبي:
بقيت الغيمة السوداء تلازمنا، فأبي لم يعد بإستطاعته مواجهة المزيد من الآلام فاستشهاد أمي كان بمثابة الضربة القاضية له، فبعدها تعرَّض لصدمة عصبية شديدة حولته إلى انسان عاجز عن القيام بأبسط أعماله.
زوجي في الأسر:
اعتقل زوجي لمدة خمس سنوات، كانت من أصعب الفترات التي مررت بها، فأمي وأخي استشهدوا وأخي الآخر وزوجي في الأسر، كان علي أن أهتم بأطفالي وأمرِّض والدي وحدي، لم أشعر يوما بذلك العجز الذي شعرته حين ساء الحال بوالدي فلم تحمله قدماه فسقط أرضاً.
والدي في ذمة الله:
خمسُ سنواتٍ فصلت ما بين إستشهاد أمي ووفاة والدي، بقيت وحيدة بائسة مع أطفالي، إلا أن منَّ الله علينا بخروجِ زوجي من السجن فبعث فينا الأمل من جديد.
ولدي عبادة يسلك درب خاله...
الآن وبعد ستة عشر سنة أي من عمر ولدي الأسير القاصر عبادة ..قدر لي ان أعيش قدر يشابه قدر أمي، فعبادة الذي نمى وترعرع على حب الوطن سار على نهج أبيه وخاله..
اعتُقِلَ ولدي عبادة القاصر، راودني ليلة اعتقاله شعوراً كذاك الشعور الذي راود أمي ليلة اعتقال إخوتي، تذكرت ما حصل يومها...
خشيت تكرار ما حدث منذ ثلاثين عاماً مما دفعني للسهر لبعد منتصف الليل خافيةً مفتاح المنزل عن عيني عبادة.
باغتتني غفوة لم تتجاوز اللحظات، إستطاع فيها الحصول على المفتاح والذهاب إلى نقطة تماس مع الإحتلال (حاجز حوارة)، فقد كان يؤمن أن للحجر تأثير كتأثير الرصاصة.
حلّ رمضان وعبادة في الأسر، بقي مقعدهُ فارغ على مائدة الطعام، بهت لون الحياة في منزلي، ليلة العيد تذكرت أمي حين امتنعت عن إعداد الكعك بعد خبر إستشهاد أخي، تذكرت نفسي حينما كنت أقنعها أن تتأقلم مع الواقع وأن تنسى ما مرّ علينا.
لم أكن أعلم قساوة ومرارة الشعور، لم أكن أعلم معنى الابتعاد عن فلذة كبدي،أتمنى ألاّ يعيد التاريخ التفاصيل التي مرّت عليكِ يا أمي...

 

 

 

المزيد من الصور
بين أمٍ وابنتها...قدرٌ يعيد نفسه
بين أمٍ وابنتها...قدرٌ يعيد نفسه
بين أمٍ وابنتها...قدرٌ يعيد نفسه
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017