الرئيسية / ثقافة وأدب
التشريع على خشبة المسرح
تاريخ النشر: الجمعة 14/09/2018 21:18
التشريع على خشبة المسرح
التشريع على خشبة المسرح

بقلم: أشرف آسيا
في هذا الزمن المٌسجى بالدماء والذي يوجه فخراً ركلة موجعة على بطن الإنسانية، وتشتد فجاعة الأنظمة الطاغية بفرض نفوذها على مقدرات وعقول الشعوب، وفي الوقت الذي يوجد فيه آلاف الأبواق الإعلامية التي تعمل على ترسيخ أقدام أي نظام ديكتاتوري، يقع على عاتق النخب الفنية السعي نحو تغيير حقيقي، بتقديم مشاريع فنية فعالة مؤثرة تعالج قضايا الكرامة ولقمة العيش والمساواة والحرية.

إنه الفن الذي يساعدنا على رؤية ما نميل إلى النظر إليه، والاستماع إلى أبعد الحدود والقضايا المتخفية خلف الستار، مثل المحلل النفسي الحقيقي الذي يسمع الكلمة التي لم تنطق، ولا شك أن العميلة الإبداعية تحتاج أعلى منسوب من حرية الرأي والتفكير والتعبير دون خوف.
ثورة على الخشبة
المسرح الذي يُعد مرآة تعكس الواقع بالشكل والمضمون، ونافذة تطل من خلالها على ميدان الحرب والسلام، كان سلاح أوغستو بوال المخرج المسرحي والدرامي البرازيلي الذي عايش أحوال بلاده تحت وطأة حكم العكسر والانقلابات الدموية واستفحال العنصرية الطبقية في النصف الثاني من القرن المنصرم، عدا عن ارتفاع مستوى فساد مؤسسات الدولة وعجز المجتمع بمواطنيه ومنظماته وأحزابه عن الدفاع.
بوال آمن بالثورة على خشبة المسرح، وأمضى حصة طويلة من عمره في مراكز التعليم الشعبي بوطنه وخارجه، مؤسساً لمسرح المضطهدين، الذي يتحول فيه المتفرج إلى ممثل يفجر غضبه على خشبة المسرح، وليَدُشنَ فلسفة قوة الثقافة في مواجهة ثقافة القوة، ولترسيخ أن الحرية هي الجوهرة النفيسة التي يمتلكها الإنسان.

ولم يتوقف حلم بوال عند هذا الحد، بل تساءل عن أهمية الفن في عرض رؤيته لديناميكية الصراع واختراع الحل لاختراق الأزمة الأخلاقية التي تضرب جذور الإنسانية في حال عدم بقاء القوانين التي تنتهك حرمة الشعب ولا تصب في صالحه؟

وبما أن وظيفة التشريع هي وضع قوانين وضمان صلاحية ما هو موجود منها فإن مساهمة الناس في هذه العميلة يُمكن أن تنجز عن طريق المسرح الذي يصوغ فيه المواطن القانون من خلال المشرع، ولا يجوز للمشرع أن يصنع القانون، بل الشخص الذي يُصنَع من خلاله، ابتكر بوال فكرة المسرح التشريعي.
المواطن المُشرع
والمسرح التشريعي قادر على تشريع قوانين المقهورين على الخشبة، وهو يُعد نموذج متطور لمسرح المضطهدين، حيث يُتيح التعليم المتبادل بين الممثلين والجمهور على خشبة المسرح، وهنا يتحول المتفرج إلى ممثل، كما يتحول المواطن إلى مُشرع القوانين بالدرجة الأولى، وبذلك رغبة المواطن تصبح قانون والإمكانية واقع، ولم يبخل علينا بوال بإنتاج كتاب يحمل اسم مشروعه العالمي وليس فقط البرازيلي "المسرح التشريعي"، وتُرجِمَ عام 2010 بمبادرة من مركز عشتار لإنتاج وتدريب المسرح.

ومن المعروف أن المسرحية تقوم على الحوار بشكل أساسي بين طرفين (الممثلين)، ولكن بوال اختراع ديالوغ ثلاثي يشمل طرفي العرض والجمهور ثالثهما، حيث تنقسم المسرحية لمرحلتين: الأولى هي العرض كما هو المعتاد من نشأة المسرحية حتى يومنا هذا، والثانية هي تدخل أفراد من الجمهور والبحث عن بدائل للإضطهاد والظلم والوضع الذي لا يطاق، حيث يصعد الأفراد المتفرجين إلى الخشبة، ليمثلوا أفكارهم الخاصة حول الموضوع، معبرين عن أفكارهم ومؤدين وجهات نظرهم مسرحياً.

ويراهن بوال على أن استغلال المسرح كسياسية للتغيير، أنجح من الصعود إلى المسرح السياسي، ولأول مرة في تاريخ المسرح وفي تاريخ السياسة يتم انتخاب فرقة مسرحية في البرلمان عام 1993 في ريو دي جانيرو وذلك ضمن حزب العمال آنذاك، وحققت عرض المسرحيات بقالبها التشريعي سن 13 قانون تعكس رغبة المواطن.

هذه النتيجة لم تُحقق بسهولة بل كان لها نصيب من التعب، فيُبين بوال جهده مع أصدقائه في إنشاء الفرق المسرحية، وعرض المسرحيات في التجمعات السكانية بالشارع والمدرسة والمستشفيات والأحياء و...إلخ، من خلال تدريب الفرق المسرحية التي يطلق عليها (النوى)؛ انطلاقاً من قناعته بأنه لا يمكن للمسرح أن يسجن داخل المباني المسرحية، مثلما لا يمكن للدين أن يسجن داخل الكنائس.


دمقرطة السياسة
ويعتبر بوال في تجربته أن لغة المسرح وأشكال التعبير فيه لا يمكن أن تكون ملكية خاصة للمثلين، مثلما لا يمكن أن تكون الديانة مملوكة لرجال الدين وحدهم.

وهذا النقاش المسرحي يساعد على التحول الاجتماعي، ويدفع بالمواطنين لتحسين ذائقتهم للحوار السياسي و"دمقرطة السياسة" بالمعنى والفعل، وتطوير رغبتهم في رفع مستوى قدراتهم الفنية.

في كتابه ينصح بوال في أن تكون كل العلاقات الإنسانية حوارات: الرجال والنساء، السود والبيض، وطبقة وأخرى وبين الدول، لكننا نعرف أن هذه الديالوغات إذا لم يتم تغذيتها بحرص أو طلبها بشكل نشيط، يمكن أن تتحول إلى إلى منولوغات يملك فيها الحق في الكلام لطرفي الحديث فقط، بينما الأطراف الأخرى تخضع للصمت والطاعة، وهم المضطهدون.

الصدق القاسي
ومن يقرأ الكتاب يشعر بقسوة الكاتب في تجربته المسرحية وجرأته في طرح المواضيع الحساسة، ولعل ذلك نبع من ألمه على الإنسانية تحت الأنقاض، والأحلام التي ضربت جذورها عاصفة الظلم الهوجاء وقذفتها إلى أشلاء متناثرة متباعدة لتتبخر مع مرور الزمن.

وأعتقد أن ما كُتب صادق ويجب أن تتحلى به أي كتابة حتى تدخل القلب وتصل إلى الفكر، وهي الكتابة الناقدة التي يفتقر معظم الكتاب لإحتوائها، وهو ما يمكن أن نسميه "الصدق القاسي"؛ لأنه يحمل قسوة المسرح في تشريح المجتمع، وهي قسوة تنصب على ما يجري في كل وطن يرزح تحت وطأة حكم العسكر، أو غطرسة رأس المال، وما يتبع ذللك من تخلف وجهل وتبعية وحالة عامة مُزرية.

المسرح التشريعي هو أروع اختراع في حياة بوال الفريدة، وهو محاولة لتوظيف المسرح بتقنياته وحواره وفنه ضمن نظام سياسي سليم، بهدف خلق صورة حقيقية للواقع، وتعزيز مكانة الديمقراطية في تفعيل التغيير الاجتماعي.

وحسب رأي مترجم الكتاب وليد أبو بكر، فإن الكتاب ليس كتاباً مسرحياً فقط، رغم أهميته في التثقيف المسرحي، لكنه حياة قبل كل شي أو كتاب تجربة في حياة فوق خشبة المسرح في تحديده الأولي، وفوق مسرح الحياة في شكلها الأكثر عمقاً الذي يتفق مع قناعات المؤلف أصل المسرح التشريعي في أننا نحن المسرح.
 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017