على مر التاريخ ارتبط مفهوم تحقيق الأمن بالمراقبة، لذلك تطورت وسائلها، وتبدلت أدواتها من عصر إلى آخر، المهم أن يتحقق الهدف النهائي من وراء ذلك، وهو استتباب الأمن، مهما كانت الوسيلة، مشروعة أو غير مشروعة، والمراقبة كغيرها من الظواهر الاجتماعية، خضعت للتبديل في الأزمنة الحديثة، إذ أصبحت الاستعانة بالمخبرين والجواسيس، لكي يراقبوا من يريد إفساد النظام، بزرع القلاقل والفتن، من الوسائل التقليدية، بالإضافة إلى ذلك أنها وسائل لا تؤتي أكلها في عصر يوصف بالميوعة والذوبان، على أن التطور التكنولوجي المذهل، أظهر أدوات جديدة ذات كفاءة عالية، كآلات الرصد، وكاميرات المراقبة، وطائرات من دون طيار، فضلا عن شبكات التواصل الاجتماعي، التي سهلت إلى حد كبير من عملية تتبع حركات الناس، ورصد أفكارهم.
يواصل زيجمونت باومان ضمن سلسلة السيولة في تفكيك ظواهر ما بعد الحداثة، كاشفا أهم أعراضها وأمراضها، التي وجدت المنافذ المواتية من أجل التسرب إلى المجتمعات الحديثة، ففي كتابه الحواري «المراقبة السائلة» مع ديفيد ليون، يتطرق إلى الأشكال الجديدة للمراقبة، التي تجاوزت بصورة مذهلة تلك الأشكال المرتبطة بالمرحلة الصلبة، ولعل أبرز مثال على تلك الفترة الجامدة، نموذج البانوبتيكون، وهو، بالمناسبة، أسلوب استحدثه الفيلسوف البريطاني جيرمي بنتام في القرن الثامن عشر، يتمثل في برج للمراقبة وسط السجن يتيح للمراقب متابعة حركة السجناء في زنازينهم، من دون أن يروا من يراقبهم، كما لا يسمح لهم برؤية بعضهم بعضا، إذ يكفي ذلك الإحساس الذي يشعر به السجناء بأنهم مراقبون، لتؤدي المراقبة غرضها المطلوب في التحكم والسيطرة، فكانت هذه الطريقة أقل تكلفة، وذات فعالية أكبر.
بإمكان الأمريكيين نتيجة إغراء القوة، القضاء على أعدائهم من دون اشتباك حقيقي، بينما مواقع التواصل الاجتماعي فهي على خلاف ذلك، وتعتقد من خلالها بأنك تُراقِب العالم، غير أنك في الحقيقة أنت المُرَاقَبُ.
المراقبة السائلة ما هي؟
إن المراقبة السائلة ليست، كما يعتقد البعض، مجرد كاميرا مراقبة هنا أو آلة رصد هناك، تراقب الناس، وترصد تصرفاتهم، وتحصي حركاتهم وهمساتهم، بل العملية تطورت كثيرا، حتى أصبح الإنسان هو من يسهل عملية مراقبته، بمنح الآخرين معطيات عنه بكل حرية، بما يوفر لهم من بيانات خاصة به، في كل مرة يستعمل موقعا إلكترونيا أو عن طريق تسجيله خدمة في الإنترنت، كما أنه يدلهم على مكانه ومساره، عندما يستخدم التطبيق الذي يساعده في البحث عن طريقه، أو من خلال تسجيل محادثاته مع أصدقائه عبر كاميرا هاتفه المحمول، كما تتحول الأجساد، عند استعمال البيانات الشخصية أو البصمات في المطارات، وفي المعابر أو أماكن العمل، «إلى صيغ معلوماتية، وتُختزل إلى مجرد بيانات، وربما يتضح ذلك على أكمل وجه في استخدام البصمات والإحصاءات الحيوية على الحدود»، لذلك تعرّف هبة رؤوف عزت المراقبة السائلة بالقول: «إنها منظومة متابعة وتعقب وتتبع وفرز وفحص ورصد ممنهج.. واستهداف».
من النماذج التي برزت للتمثيل على المراقبة الجديدة، بحسب باومان، طائرات من دون طيار، ومواقع التواصل الاجتماعي، ذلك أن الأولى تراقبك، وأنت في غفلة من أمرك، لأنها صغيرة الحجم، غير أن خطرها لا يتوقف عند هذا الحد، فهذه الطائرات، كما يرى باومان، سوف تشكل تهديدا كبيرا على البشرية في مقبل الأيام، إذ بإمكان الأمريكيين نتيجة إغراء القوة، القضاء على أعدائهم من دون اشتباك حقيقي، بينما مواقع التواصل الاجتماعي فهي على خلاف ذلك، فأنت من تستسلم لإغرائها وإغوائها وجاذبيتها، وتعتقد من خلالها بأنك تُراقِب العالم، غير أنك في الحقيقة أنت المُرَاقَبُ، وتظن بأنك حُزت حرية أكبر، إلا أنك، في الواقع، «استعبدت نفسك بنفسك»، في هذا السياق، يشرح باومان القلق الذي صار ينتاب الأفراد اليوم، عندما تغلق في وجوههم المخارج، التي تساعدهم على الظهور بإفشاء أسرارهم وانتهاكها، «فليست إمكانية إفشاء الخصوصية أو انتهاكها هي ما يخيف (الأفراد)، ولكنها إغلاق المخارج، التي يمكن من خلالها إفشاء الخصوصية، فتتحول مناطق الخصوصية إلى مواقع للحبس، حيث يحكم بالعذاب على صاحب الفضاء الخاص، ويُكتب عليه أن يعاني عواقب أفعاله من دون مساعدة أحد»، ولكي يخرج من دائرة المعاناة والعذاب، عليه إثبات ذاته، بسعيه إلى نيل أكبر قدر من تسجيلات الإعجاب أو التعليقات أو الظفر بالنكزات، علاوة على إتاحة معلوماته الخاصة من صور ونشاطات للنشر على نطاق واسع.
جدلية القهر والإغواء
لعل السؤال الذي يطرح هنا هو: ما الذي يجعل الناس في هذا العصر يفشون أسرارهم بكل هذه الأريحية؟ فما كان في القديم ينتزع بالقهر، صار اليوم يذاع على الملأ بالرضا، و«الخوف من الانكشاف أمام الناس، قد تغلب عليه ابتهاج المرء بملاحظة الناس له»، قد يكون السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى تأثير وسائط التواصل الاجتماعي وجاذبيتها، التي تغوي من يعتادها وتغريه، من دون اعتبار للحياة الخاصة، وما جعل الأمر مدعاة للأسى، هو إعادة تعريف الإنسان لنفسه بأنه مجرد شيء من الأشياء أو سلعة من السلع، حتى أضحى كشف السر، بالموازاة مع ذلك، شكلا من أشكال الاعتراف، الذي يسعى إليه الإنسان في عالم سائل استهلاكي، فعلى خلاف الاعتراف المسيحي في الماضي «الذي كان يُهمس به إلى شخص واحد، يتعلق بالتذلل والتواضع لله»، تأتي المدونات اليوم لكي «تبث الأسرار لكل من يريد قراءتها»، بالتالي، تغدو سلعة «تعلن عن نفسها بنفسها، إنها تتعلق بالدعاية وذيوع الصيت أو الظهور العام على الأقل».
على صعيد آخر، يرفض باومان الطرح الذي يقول بأن وسائل التواصل الاجتماعي كانت سببا في تفكك الروابط الاجتماعية، على خلاف ذلك، يرى أن هذه الشبكات والمواقع ما كان لها أن تتمتع بهذه القوة والفعالية، لو لم تجد الأرضية المناسبة، من تفكك للمجتمعات، وهشاشة للروابط، الأمر الذي استغلته السلطة من أجل الانتشار والتمدد، إذ أنها استعانت بالأدوات التقنية لمساعدتها في فرض الرقابة على المجتمعات المتفككة أصلا.
مع تطور تكنولوجيا المراقبة حققت السلطة «هدفين استراتيجيين متعارضين: الحبس (أو إحاطة داخل الأسوار)، والإقصاء (أو الإبعاد خارج الأسوار).
جدلية الأمن والمراقبة
على ضوء ما سبق، ما عادت نماذج من مثل البانوبتيكون والأخ الأكبر، تغري من يريد التحكم في السلطة، ويسعى إلى تحقيق الأمن، بإخضاع الناس والسيطرة عليهم، لأنها نماذج، بحسب باومان، تفككت أصلا، ذلك أن السرعة التي يتميز بها هذا العصر قد أجبرت هذه النماذج على الاختفاء من تلقاء نفسها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لقد تغيرت الحياة في المجتمعات الحديثة، ففي الماضي لما كانت المجتمعات ذات أشكال طبقية هرمية، كان لا بد أن تكون المراقبة صارمة للحفاظ على السلطة التراتيبة، أما اليوم فإن الحياة تغيرت، والمجتمعات تطورت، وعليه، فقد أصبح الأفراد في هذه المجتمعات أكثر ضبطا وانضباطا، بالتالي، «لا حاجة إلى بناء جدران سميكة، ولا إلى تشييد أبراج مراقبة لحبس النزلاء في الداخل، ولا إلى استئجار حشود غفيرة من المشرفين للتأكد من التزام النزلاء بالنظام القمعي»، ويرجع ذلك، بحسب باومان، إلى أن عملية تشييد الأسوار والبقاء داخلها قد تمت بطريقة ذاتية، أي من طرف الناس أنفسهم، وبمحض إرادتهم، من ثم « حلت الجزرة محل العصا، والإغواء والإغراء محل الوظائف، التي يقوم بها الضبط المعياري، وتهيئة الرغبات وشحذها محل المراقبة المكلفة والمولدة للمعارضة والانشقاق». وبما أن الهدف الرئيسي من المراقبة هو تحقيق الأمن والضبط، باعتبارهما شيئين مرتبطين، خلافا لما ذهب إليه ميشال فوكو عندما حاول أن يفصل بينهما، لذا كانت الحاجة إلى المراقبة استجابة لهاجس «الخوف من الآخر» عندما شُيدت المدينة «على أساس فصل جُزر النظام عن بحر الفوضى»، ذلك أن سكان المدن غرباء، تنعدم الثقة في ما بينهم، ويشيع الخوف، فكان لا بد من هذه الآلية حتى يحس الناس بالأمان، ومع تطور تكنولوجيا المراقبة حققت السلطة «هدفين استراتيجيين متعارضين: الحبس (أو إحاطة داخل الأسوار)، والإقصاء (أو الإبعاد خارج الأسوار) « ولعل ما يعزز هذين النوعين من تكنولوجيا المراقبة في الواقع العالمي «المعدلات المتصاعدة للمنفيين واللاجئين، وطالبي اللجوء أو طالبي الخبز والماء».
ومما لا شك فيه، ختاما، أن ارتباط الأمن بالمراقبة بهذه الطريقة المرضية، حتى أضحت المراقبة «أداة تحاول أن تهون من صعوبة الحياة مع الخوف»، الغاية منها، في الأساس، تلبية مركز الرغبة البشرية الفطرية في العلو، التي تسعى «وراء الراحة، وراء عالم لا قلق فيه، ولا ملل ولا إرهاق، عالم واضح لا يحمل مفاجآت، ولا أسرارا، لا يرهبنا ولا يأخذنا أبدا على حين غرة، عالم لا مصادفة فيه، ولا عواقب غير متوقعة، ولا تقلبات للقدر».
غير أن هذا السعي المحموم وراء الراحة، وهذا النهم للفرار من الخوف والقلق، يقابله إحساس الإنسان بالعجز في تحقيق الإشباع، وبالضعف في تحصيل الارتواء، مهما حاز من وسائل للإشباع، ومهما حصل من أساليب للترفيه في هذه الحياة، لأن الرغبة، على حد قول باومان، تثيرها غريزة الموت، ثم تقوم بغرسها، وعليه، «لا يمكن إشباعها إلا بالموت».